بسم الله الرحمن الرحيم
مولد النبي (صلى الله عليه وآله):
ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة عام الفيل على المشهور1. أي قبل البعثة بأربعين سنة. والمشهور عند الإمامية وبعض من غيرهم أنه ولد في السابع عشر من شهر ربيع الأول. والمشهور عند غيرهم ووافقهم الكليني: أنه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت منه2. وثمة أقوال أخر لا مجال لذكرها. ونص الطبرسي، والكليني على أنه (صلى الله عليه وآله) قد ولد في يوم الجمعة، وعند غير الامامية: أنه ولد في يوم الاثنين. وورد: أن أمه قد حملت به في أيام التشريق. وهي الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة3. ولا يخلو ذلك من إشكال، لأنها إن كانت ولدته في تلك السنة، فإن حملها به (صلى الله عليه وآله) يكون ثلاثة أشهر، وتزيد قليلا، وإن كانت ولدته في السنة الثانية، فمدة حمله تكون خمسة عشر شهرا، مع أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأقصاها سنة عند المشهور من الإمامية. وأجيب: بأن ذلك مبني على النسئ في الأشهر الحرم عند العرب، فإنهم كانوا يقولون مثلا: إن الأشهر الحرم توضع بعد أربعة أشهر مثلا، ثم يستحلون القتال في نفس الأشهر التي رفع الاعتبار عنها. ولكن إن لم نقل بأن الحمل به (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة أشهر قد كان من خصوصياته (صلى الله عليه وآله) فلا يمكننا قبول تلك الرواية حتى ولو صح سندها، وذلك لأن كون تلك الرواية واردة بناء على أشهر النسئ يحتاج إلى إثبات. إذ لم نعهد في تعبيرات المعصومين بناء كلامهم على النسئ، الذي هو زيادة في الكفر، كما لم نعهد ذلك في كلمات المحدثين والمؤرخين. ولا سيما مع عدم نصب قرينة على ذلك.
تعقيب هام وضروري:
لقد قال الأربلي (رحمه الله)، بعد أن أشار إلى الاختلاف في تاريخ ولادته (صلى الله عليه وآله): (إن اختلافهم في يوم ولادته سهل، إذ لم يكونوا عارفين به، وبما يكون منه، وكانوا أميين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم. فأما اختلافهم في موته، فعجيب. والأعجب من هذا مع اختلافهم في الأذان والإقامة، بل اختلافهم في موته أعجب، فإن الأذان ربما ادعى كل قوم أنهم رووا فيه رواية، فأما موته فيجب أن يكون معينا معلوما)4. وكلام الأربلي (رحمه الله) ظاهر المأخذ، فهو يقول: إن اختلافهم في تاريخ ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما تكون له مبرراته، ولكن ما يثير الدهشة حقا هو اختلافهم في يوم وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنهم كانوا قد عرفوا فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) المنقذ والمخرج لهم من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، مع عدم وجود هوى سياسي أو مذهبي يقتضي إبهام ذلك، أو إجماله، أو التلاعب فيه وأغرب من ذلك كله، هو اختلافهم في الكثير الكثير من الأمور التي كانوا يمارسونها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدة مرات يوميا، طيلة سنين عديدة، حتى إنك لتجدهم يروون المتناقضات عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أفعال الوضوء والصلاة، وهم كانوا يؤدونها معه (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس مرات في كل يوم. بل قد تجد بعضهم يقول: إنهم إنما كانوا يعرفون أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ في صلاة الظهر والعصر، من اضطراب لحيته5. أما اختلافهم في الاذان الذي كانوا يتربون على سماعه منذ صغرهم، فذلك ظاهر أيضا، كما أشار إليه الأربلي (رحمه الله). وإذن.. فما هو مدى معرفتهم بتلك الاحكام التي يقل الابتلاء بها، والتعرض لها عادة يا ترى؟!. وأيضا.. هل يصح اعتبار أقوال هؤلاء وافعالهم سنة ماضية، وشريعة متبعة،- كما هو عند بعض الفرق الاسلامية- بل تجد بعضهم ربما يرد الحديث الصحيح لقول صحابي، أو بقول حاكم. إن ذلك لعجيب! وأي عجيب! ! وإذا كانوا يختلفون حتى في مثل هذه الأمور، فهل يعقل بعد هذا أن يصح قول البعض: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك الأمة هكذا هملا، بلا قائد ولا رائد؟ ولا معلم، ولا مرشد؟ على اعتبار أن الأمة تكون مستغنية عن الهداية والرعاية؟!. وهذا موضوع هام جدا يحتاج إلى بحث وتمحيص بصورة مفصلة.
قصة كاذبة:
وقد روي عن عبد الله بن عباس، أنه قال: سمعت أبي العباس يحدث، قال: ولد لأبي عبد المطلب عبد الله فرأينا في وجهه نورا يظهر كنور الشمس، فقال أبي: إن لهذا الغلام شأنا عظيما. قال: فرأيت في منامي أنه خرج من منخره طائر أبيض. إلى أن قال: فلما انتبهت، سألت كاهنة من بني مخزوم، فقالت: يا عباس، لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب تبعا له. إلى أن قال: فلما مات عبد الله، وولدت آمنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتيته، ورأيت النور بين عينيه يزهر، فحملته، وتفرست في وجهه.. ثم تذكر الرواية ما رأته آمنة، ثم تقول: فهذا ما رأيت يا عباس. قال- يعني العباس-: وأنا يومئذ أقرأ، وكشفت عن ثوبه، فإذا خاتم النبوة بين كتفيه، فلم أزل أكتم شأنه وأنسيت الحديث، فلم أذكره إلى يوم إسلامي، حتى ذكرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)6. وأقول: إن هذا الحديث لا يصح، لان العباس كان أكبر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنتين7، فكيف يكون قد حضر ولادة أبيه عبد الله، ورأى ذلك المنام ثم ذهب إلى الكاهنة، ثم حين ولادة الرسول وأخذه وحمله إلخ.. هذا بالإضافة إلى أن نسيانه لهذا الامر الخطير جدا هو الاخر غير معقول. ولو سلمنا أنه نسيه، فكيف لا يذكره حين بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبادر إلى التصديق به، وإعلان إسلامه. بل يتأخر في ذلك هذه السنين الطويلة، بل إلى عام الفتح كما يقولون. والحقيقة هي أنهم يريدون من أمثال هذه الحكايات اثبات فضائل للعباس (رحمه الله)، مثل كونه أول من أسلم، بل أسلم قبل ولادة النبي نفسه، وما إلى ذلك.
مصير الدار التي ولد فيها النبي (صلى الله عليه وآله):
وكانت ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، في شعب بني هاشم، أو شعب أبي طالب، في الدار التي اشتراها محمد بن يوسف، أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب (رحمه الله) تعالى بمائة ألف دينار. ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجدا، يصلي فيه الناس8 ويزورونه، ويتبركون به. وبقي على حالته تلك، فلما: (أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه، ومنعوا من زيارته، على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطا للدواب)9.
رضاعه (صلى الله عليه وآله وسلم):
ويقولون إن أمه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أرضعته يومين أو ثلاثة، ثم أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياما10. ثم قدمت حليمة السعدية رحمها الله مكة مع رفيقات لها، بحثا عن ولد ترضعه، لتستفيد من رعاية أهله، ومعوناتهم، فعرض (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها، فرفضته- في بادئ الامر- ليتمه. ولكنها عادت، فقبلته، حيث لم تجد غيره، فرأت فيه كل خير وبركة، فأرضعته سنتين. ثم أعادته إلى أهله، وهو ابن خمس سنين ويومين- كما يقولون- ليكون في كفالة جده عبد المطلب، ثم عمه أبي طالب. ويقول العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني: إن قولهم: إنها رفضته في أول الأمر ليتمه إنما يصح بالنسبة ليتيم ضائع، لا أهمية له. وأما بالنسبة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن كافله عبد المطلب سيد هذا الوادي. وأمه آمنة بنت وهب، من أشراف مكة. بل ثمة من يقول: إنه لم يكن حينئذ يتيما، وإن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر، قيل: ثمانية وعشرين شهرا. وقيل: سبعة أشهر11. انتهى كلامه.
لماذا الرضاع في البادية؟!:
وعلى كل حال فقد كان إرسال الأطفال بي البادية للرضاع، هو عادة أشراف مكة، حيث يرون أن بذلك ينشأ أطفالهم: أصح أبدانا، وأفصح لسانا، وأقوى جنانا، وأصفى فكرا وقريحة، وهي نظرة صحيحة وسليمة، وذلك لما يلي: أما كونهم:
1- أصح أبدانا، فلأنهم يعيشون في الهواء الطلق، ويواجهون مصاعب الطبيعة فتصير لديهم مناعة طبيعية تجاه مختلف المتغيرات، في مختلف الظروف.
2- وكونهم أفصح لسانا، من حيث إنهم يقل اختلاطهم بأهل الأقطار الأخرى، من الأمم الأخرى، على العكس من سكان المدن، ولا سيما مكة، التي كانت تقيم علاقات تجارية بينها وبين سائر الأقطار والأمم. ولها رحلتا الشتاء والصيف، إلى البلاد التي تتاخم البلاد الأجنبية، التي لا يبعد تأثرها بها- قليلا كان ذلك أو كثيرا-.
3- وأما أنهم أصفى فكرا وقريحة، فهو حيث يبتعد الانسان حينئذ عن هموم المدينة، وعن علاقاتها المعقدة والمرهقة، حيث لا يواجه في البادية إلا العيش الساذج والبسيط، والحياة على طبيعتها. ولا يتأثر فكره وعقله، بالمفاهيم والأفكار التي تفرضها تلك الحياة المثقلة بالعلاقات المنحرفة، ثم هو يجد الفرصة للتأمل والتفكير والتعرف على أسرار الطبيعة والكون، ولو في حدود عالمه الناشئ المحدود، ومداركه الناشئة أيضا. وليكون من ثم ذا فكر مبدع خلاق، وقريحة صافية وغنية. ولكن بشرط عدم الاستمرار في هذه الحياة طويلا، فإن الاستمرار في حياة البادية من شأنه أن يجعل الانسان يعاني من الجمود والانغلاق، ثم هو يكون لنفسه مفاهيم وأفكارا، يحولها الزمن إلى حقائق لا تقبل الجدل عنده، ويصير من الصعب عليه قبول أي رأي آخر يسير في غير اتجاه قناعاته وأفكاره، فإن تدرب الانسان على أن يسمع النقد والمخالفة في الرأي يبعده عن الاستبداد الفكري، ويجعله يبحث عن الدليل، والمبرر لكل فكرة لديه. وإلا، فإنه يصير على استعداد للتخلي عنها إلى غيرها مما يستطيع أن يدافع عنه ويستدل عليه. وهذا أمر طبيعي يعرفه الانسان بالمشاهدة، ويستدل عليه بالتقصي والتجربة.
* الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) _ السيد جعفر مرتضى العاملي- بتصرف
1- راجع: سيرة مغلطاي ص 6 / 7 وتاريخ الخميس ج 1 ص 195، وغير ذلك وحكى الاتفاق عليه.
2- أصول الكافي ج 1 ص 364 ط المكتبة الاسلامية بطهران سنة 1388.
3- أصول الكافي ج 1 ص 364، وليراجع: تاريخ الخميس ج 1 ص 196.
4- كشف الغمة ج 1 ص 15.
5- صحيح البخاري ط سنة 1309 ه ج 1 ص 90 و 93، ومسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 395 و ج 5 ص 209 و 182 و 112 وجواهر الاخبار والآثار (مطبوع بهامش البحر الزخار): ج 2 ص 247 عن الانتصار، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري والسنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 37 و 54 عن الصحيحين والبحر الزخار ج 2 ص 247.
6- روضة الواعظين ص 64 / 65.
7- الإصابة ج 2 ص 271.
8- أصول الكافي: ج 1 ص 264. وقيل: إن زبيدة قد فعلت ذلك. راجع التبرك: ص 243 و 255، وراجع تاريخ الخميس ج 1 ص 198 وراجع أيضا الروض الأنف ج 1 ص 184 والمواهب اللدنية ج 1 ص 25، وتاريخ الأمم والملوك: ج 1 ص 571، والكامل في التاريخ: ج 1 ص 458 وأخبار مكة للأزرقي ج 1 ص 433.
9- أعيان الشيعة ج 2 ص 7.
10- قاموس الرجال ج 10 ص 417 ترجمة ثويبة، عن البلاذري.
11- صفة الصفوة ج 1 ص 51 وكشف الغمة للأربلي- ج 1 ص 16.