بسم الله الرحمن الرحيم
1- الدين لغة:
إن أصل كلمة الدين يعني الطاعة والخضوع والانقياد، امتثالا لأمر من الأوامر، أو برنامج من البرامج، ومنه قوله تعالى: ﴿...مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ...1﴾، يعني في حكمه وطاعته.
ولازمه استحقاق الإدانة والذم على المخالفة، ومنه ما ورد في الإنجيل: "الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين "2.
والفرق بينهما أنه ان لوحظ من جانب المطيع والقابل سمي "دينا"، باعتبار ما يستحقه من المدح والعز على الطاعة، ومن الذم والذل على المخالفة.
وإن لوحظ من جانب الآمر والمصدر للحكم سمي "حكما، وجزاء، وحسابا، ونحوها".
وبهذا المعنى يكون كل ما يعتقده المرء جازما بصحته أو بعدمها دينا، سواء كان ذلك مرتبطا بعالم الغيب، أم لم يكن، فإن كل التزام بالأنظمة والقوانين في الدول، كذلك الالتزام بأي مبدأ أو إيديولوجيا فكرية أو عقائدية، فهو دين.
2- الدين والفطرة:
إلا أنه غلب استعمال لفظ الدين عند العامة في ما يرتبط بعالم الغيب من الاعتقاد بالله تعالى، واليوم الآخر، والثواب والعقاب الأخرويين، وقد ورد استعماله بهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾3، وغيرها من الأمور الغيبية، باعتبار أنه اليوم الذي يجازى فيه الإنسان على كل ما فعل في الحياة الدنيا، إن خيرا فنعيم ولذة خالدة، وإن شرا فشقاء وعذاب دائم.
والدين مركوز في فطرة الإنسان، وجبلته وطبيعته، إلا أنه لشدة اهتمامه بحاضره، وذهوله عما ينتظره في المستقبل، نتيجة إخلاده إلى الأرض، واطمئنانه إلى زخارفها، واستئناسه بعالم المادة والمحسوسات، ينسى قضايا الدين إلى حين، ما دامت تسير وفق أهوائه ورغباته، فإذا ابتلي بمصيبة أو بمكروه، رجع إلى الله تعالى، إذ هو يدرك بفطرته أن الله تعالى هو القادر على إخراجه من المشاكل التي تواجهه، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ...﴾4.
ومما يدل على أن الدين مركوز في فطرة الإنسان، قوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾5، وقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾6.
فإن التذكر ضد النسيان، وهما يتبادلان على ذهن الإنسان، إذ هما من الصفات المتضادة، والنسيان لا يكون إلا عن ذهول عن شيء كان موجودا في الذهن، فإذا لم يكن نسيان في البين، لا يصح التعبير بالتذكر، وإنما هو تعليم أو نحوه.
وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام جملة من الروايات، القريبة من حد التواتر، الدالة على أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي التوحيد7.
كما أن مما لا شك فيه، أن الإنسان، ومنذ بداياته، وعلى مدى التاريخ، أدرك أن انتظام حياته لا يمكن أن يتم إلا من خلال قوانين وقواعد، يجب أن يلتزم بها أفراد المجتمع، ليستقيم أمرهم، فأمّروا الأمراء ونصّبوا الملوك وشيوخ القبائل، وأقروا لهم بالطاعة، وسنوا القوانين والتشريعات، في ما يرتبط بكافة شؤون حياتهم، حسب ما تقتضيه حاجاتهم ومصالحهم.
ولكن ذلك لا يعني أن الإنسان قادر على إدراك تفاصيل شؤونه الدنيوية والأخروية لوحده، وبمعزل عن كل ما عداه، ومركوزية الدين في فطرته إنما هي على نحو كلي وإجمالي، ولهذا فهو بحاجة إلى توجيه وتعليم، ليستطيع أن يتعامل مع القوانين التي فيها سعادته وخلاصه، إذ من المعلوم بداهة، أنه لا يعرف كل ما يصلحه وما يفسده في هذه الحياة الدنيا، فضلا عن الحياة الآخرة.
ومما يؤثر سلبا على هذا الإدراك اختلاف سلائق الناس وطبائعهم، وكيفية تعاملهم مع ما يواجههم في هذه الحياة، مما يؤدي إلى اختلاف اعتقاداتهم ومدركاتهم، الأمر الذي يزيد من اختلال فطرتهم وجبلاتهم، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾8.
وهذا يدل على أنه لا بد لهم من معين ومرشد، يرفع عنهم غائلة الاختلاف والتنازع وبغي بعضهم على بعض، ويهديهم إلى ما فيه رشادهم وصلاحهم، وينقلهم إلى الائتلاف والوئام، فكانت الحاجة إلى بعثة الأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ...﴾9.
3- انحراف الفطرة:
وهنا يرد سؤال مهم، وهو أنه ما دام الإنسان مفطورا على التوحيد، فلماذا نرى الكثير من الناس يخالفون الفطرة، ويذهبون مذاهب شتى فمنهم من ينكر الألوهية، ومنهم من يعتقد بتعدد الآلهة وأن له تعالى شركاء، بل إن بعض المؤمنين بالإله الواحد يبتلون بالشرك من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ 10﴾.
وفي الحقيقة ان كثيرا من العوامل الداخلية والخارجية تلعب دورا أساسيا، وتؤثر تأثيرا مباشرا في معتقد الإنسان، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الفطرة وضمورها، ويمكن الإشارة إلى عاملين من هذه العوامل وهما:
أولا: ان شدة ارتباط المرء بالمادة والمحسوسات وانسه بها، وعدم تعويد النفس على التأمل في حقائقها وما ورائها، يؤدي إلى الذهول والغفلة عن تلك العوالم، والابتعاد عن حقائق الأشياء ومنشأ خلقها.
ثانيا: ان البيئة والمحيط الذي يعيش الإنسان فيه، وينشأ على مفاهيمه وتقاليده وعاداته، يؤثر في شخصيته وتعاطيه مع الأحداث والوقائع، سواء في ذلك بيئته الأسرية، والاجتماعية، والثقافة المدرسية، فتطبع شخصيته وكيانه بطابعها، وتؤدي به إلى سلامة الفطرة أو انحرافها، وقد أشار النبي الأعظم’ إلى هذه الحقيقة في الحديث الوارد عنه فقال: "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
وهذه العوامل وغيرها، وإن كانت تؤثر في الإنسان تأثيرا حقيقيا ومباشرا، إلا أنها لا تحجب عنه القدرة على الاختيار والتمييز، من خلال التدبر والتأمل في في آيات الله تعالى ومخلوقاته كما بين ذلك القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة.
فقد أراد الله تعالى من خلال الدعوة إلى التفكر والتأمل في آياته أن يرجع الإنسان إلى فطرته، عبر إعمال عقله، والغوص في أسرار الكون، لعل ذلك يرجعه إلى حقيقة أمره، فيعيد ربطه به تعالى، وتعلقه وسعيه إلى ما ينجبه في الدنيا والآخرة.
ولما كان الناس متفاوتين في درجات وعيهم ومعرفتهم، ومدى إدراكهم لما حولهم من كائنات وموجودات، عمل القرآن الكريم على كافة المستويات ليرجعهم إلى الفطرة السليمة، مخاطبا إياهم بما يكفل لهم هذه النتيجة، لتصل الحجة إلى الجميع، ولا يبقى عذر لمعتذر، في أنه لم يدرك معاني هذه الآيات والدلائل، سواء على المستوى الداخلي النفسي، أم على المستوى الخارجي بمختلف أبعاده وشؤونه، التكوينية والاجتماعية والتربوية وغيرها، وقد أشار بداية إلى هذه المجالات في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ...﴾11.
4- الدعوة إلى التأمل:
من الملاحظات الهامة والأساسية في القرآن الكريم، أنه لم ينطلق، بادئ ذي بدء، في حثه على التأمل والتفكر، من نظريات علمية معقدة، بحيث يحتاج فهمها إلى الخبراء في أي حقل من حقول المعرفة، للوصول إلى الغاية المنشودة، وإرجاع الناس إلى فطرتهم، فإن لهذا المسلك محاذير كثيرة، قد تؤدي إلى عكس النتائج المرجوة، مما يفضي إلى ضياع الإنسان وتشتته، إذ معنى ذلك أن يتحول الخبراء إلى أرباب من دون الله، يمكن أن ينحرفوا عن جادة الحق، فيتبعهم الناس على ذلك من دون تدبر أو روية، وهو ما حصل مع أهل الكتاب الذين أقفلوا عقولهم، وأحسنوا الظن بأحبارهم ورهبانهم، فظنوا أنهم عاجزون عن إدراك الحقائق بمعزل عنهم، فأوردوهم المهالك لأجل ذلك، قال تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾12.
مع أن هؤلاء الأحبار والرهبان بشر خطاؤون، يمكن أن ينحرفوا عن الصراط السوي، نتيجة لأهوائهم ومصالحهم، وشهوات أنفسهم، وكثير من الناس يدرك ذلك، فقد بين تعالى حقيقة الأمر، حين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ...13﴾.
وفي مقام الإلفات إلى هذه الحقيقة، وأنها مخالفة لما تقتضيه الفطرة الإنسانية، من السعي الجدي باتجاه الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للإنسان، حيث أن أقرب الطرق للوصول إلى الهدف المنشود، هو ما يكتشفه الإنسان بنفسه،فقد بين في عدد من الآيات المباركة أن عاقبة الذين لا يعملون عقولهم، ولا يسعون إلى الوصول إلى الحقيقة بأنفسهم، هي الخسران والعذاب، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾14.
وذكر في مقام آخر حوار يجري بين المستكبرين وأتباعهم من المستضعفين، يوم القيامة، يبين أن اتباع الآخرين لا يجدي نفعا، وأن الإعتذار عن ذلك بأنهم كانوا من المستضعفين ليس لهم حيلة ولا خيار، حيث وصف الجميع بالظلم، وإن استضعافه لا يرفع عنه ظلم نفسه، قال تعالى: ﴿...وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ *وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾15.
إن أقرب شيء إلى الإنسان هي نفسه، ولذلك فإن تأمله وملاحظته الخاصة، من خلال رجوعه إلى نفسه وفطرته، هي أكثر الأمور تأثيرا في نفسه، مهما كانت بسيطة وساذجة، وبالتالي هي التي تعيده إلى جادة الصواب.
* الشيخ حاتم اسماعيل
1- سورة يوسف
2- إنجيل يوحنا: 3/18
3- سورة الفاتحة
4- سورة يونس آية:12
5- سورة طه آية:1- 3
6- سورة الأعلى
7- راجع حق اليقين في معرفة أصول الدين, السيد شبر، ج1، ص9
8- سورة يونس آية:19
9- سورة البقرة آية: 213
10- سورة يوسف, آية: 106
11- سورة فصلت، آية: 53
12- سورة التوبة، آية:31
13- سورة التوبة، آية: 34
14- سورة الأحزاب، آية:67- 68
15- سورة سبأ، آية:31- 33