الخطاب الثقافي التبليغي رقم (18): هيهات منّا الذلّة
هذه الكلمات ليست شعاراً شكليّاً رفعه الإمام الحسين (عليه السلام)، بل نهجاً رسمه لكلّ الأجيال القادمة، بأنّ الخضوع للظالم لا مكان له في قاموس الحسينيّين؛ وقد أعلن عنه (عليه السلام) عندما توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على طاعة يزيد الفاسق، قائلاً: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين، وحجور طابت وطهُرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نُؤثِر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
وقد صرّح الإمام الحسين (عليه السلام) في مناسبات عدّة عن علمه المسبق بتصميم بني أميّة على قتله، وقد رُوي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمة، فقالت: يا بنيّ، لا تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك يقول: يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يُقال لها كربلا، فقال لها: «يا أمّاه، وأنا والله أعلم ذلك، وإنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أُقتَل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفَن فيها... يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً، ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون، فلا يجدون ناصراً ولا معيناً».
ومع هذا، لم يتبدّل شيء في مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) ضدّ بني أميّة الذين مثّلوا أكبر مصاديق الجور والظلم في الدين والسياسة والحكم وإدارة شؤون الرعيّة وغيرها، بل إنّ ذلك زاده إيماناً وقوّة في الدفاع عن الحقّ، وأداء التكليف الإلهيّ في مواجهة الظالمين؛ فإنّ المرحلة بنظر الإمام الحسين (عليه السلام)، ينطبق عليها ما رواه عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرام، أو تاركاً لعهد الله، ومخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».
لقد سنّ الإمام الحسين (عليه السلام) سنّة الإباء لكلّ مَن يدين بقيم السماء، وينتمي إليها، ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد؛ إذ إنّ اليقين بالموت لا يُضعِف الهمم، وقو القائل: «فَلْيرغبِ المؤمنون في لقاء الله عزّ وجلّ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين الباغين إلّا برما».