الهدف: التعرّف على قبسٍ من سيرة الإمام محمّد
الباقر (عليه السلام) الشّخصية والاجتماعيّة
المحاور
1- ولادة الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)
2- باقر العلم
3- قبسٌ من أخلاقه الاجتماعية
4- الإمام الباقر (عليه السلام) وإقامة الشّعائر الحسينيّة
5- الشّهادة
تصدير: روي عن الإمام الصّادق (عليه السلام)
بسندٍ صحيح قال: إنّ رسول الله(ص) قال ذاتَ يومٍ لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا
جابر إنّك ستبقى حتى تلقى وَلَدي محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب،
المعروف في التّوراة بالباقر، فإذا لقيتَه فاقرأه منّي السّلام، فدخل جابر إلى عليّ
بن الحسين (عليه السلام)؛ فوجد محمّد بن عليّ عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبِل
فأقبَل، ثمّ قال: أدبِر فأدبَر، فقال جابر: شمائل رسول الله (ص) وربّ الكعبة، ثمّ
أقبل عليّ بن الحسين(عليه السلام) فقال له: من هذا؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي
محمّد الباقر(عليه السلام)، فقامَ جابر فوقع على قدميه يقبّلهما ويقول: نفسي
لنفسِكَ الفداء يا ابن رسول الله، إقبَل سلامَ أبيك. إنّ رسول الله يقرأ عليكَ
السّلام. قال: فدمعت عينا أبي جعفر ثم قال: يا جابر؛ على أبي رسول الله السّلام ما
دامت السّماوات والأرض، وعليك السّلام يا جابر بما بلّغت[1].
1- ولادة الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)
وُلد (عليه السلام)يوم الجمعة في غرّة رجب، أيّ أوّل يوم منه سنة سبع
وخمسين هجريّة، وهو الأشهَر، وكان مولده المبارك في دار أبيه الإمام عليّ بن الحسين
زين العابدين (عليه السلام)، في مدينة الرّسول الأعظم (ص)، وكانت مدّة إمامته تسعةَ
عشر عاماً، بعد أن عاش مع جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) أربع سنين، وشَهِد
واقعةَ كربلاء، وعاش في ظلّ أبيه السجّاد (عليه السلام) ثمانيةً وثلاثين عاماً.
كُنيته: أبو جعفر، كُنّي بولده الإمام جعفر
الصّادق (عليه السلام). وقد يقال: أبو جعفر الأوّل، تمييزاً عن الإمام الجواد (عليه
السلام) الذي يُكنّى: أبا جعفر الثّاني، أمّا إذا أطلقتَ الكُنية فيُقصد بها الإمام
الباقر (عليه السلام).
ألقابه: أشهرها «الباقر»، قيل: لتبقّره في
العلم، أي توسّعه فيه، أو لتبحّره فيه، أو لشقّه للعلم حيث بقرَه فعرِف أصله
واستنبط فرعَه. وقيل: لُقّب بالباقر لغزارة علمه، وبذلك لقّبه رسول الله صلّى الله
عليه وآله، مُخبِراً جابر بن عبدالله الأنصاريّ، وباعثاً إليه سلامَه. أمّا ألقابه
الأُخرى فهي: الشّاكر لله، والهادي، والأمين.
باقرُ العِلم
كان الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) مقصَد العلماء من كلّ البلاد
الإسلاميّة، وما زار أحدٌ المدينة إلّا عرّج على بيت محمّد الباقر(عليه السلام)
يأخذ منه..، وكان يقصده من أئمّة الفقه كثيرون([2]).
فلقد حاز الإمام(عليه السلام) على شُهرة علميّة عالميّة في زمانه، فكان مجلسه يغصُّ
دوماً بالوافدين من مختلف أرجاء وأصقاع الأرض الإسلامية، وكانت مكانته العلميّة
تستهوي الكثيرين للاستعانة به لحلّ المـُعضلات العلميّة والفقهيّة التي تواجِهَهم،
وقد فُتِن بشخصيّته في ذلك الوقت أهل العراق..، وكان الوافدون عليه(عليه السلام)
يُبدون خضوعاً وأملاً كبيرين بشخصيّته العلميّة؛ بحيث كان عبد الله بن عطاء المكّي
يقول: "ما رأيت العلماء عند أحدٍ قط أصغر منهم عند أبي جعفر ولقد رأيت الحكم بن
عُيينة مع جلالته في القوم بين يديه؛ كأنّه صبيٌّ بين يدي معلّمه"([3]).
وذكر ابن شهر آشوب في المناقب: "إنّ أبا جعفر أكبر العلماء"([4])، وقد أخذ عنه أهل
الفقه ظاهر الحلال والحرام([5]).
وكان (عليه السلام) أحدُ من جمع بين العلم والعمل والسّؤدد والشّرف([6])، واسع
العِلم ووافر الحِلم([7])، حتى وصفه هشام بن عبد الملك بأنّه "نبيّ الكوفة" حين
سأله الأبرش الكلبي: "من هذا الذي احتوشته أهل العراق يسألونه؟ قال: هذا نبيّ
الكوفة وهو يزعم أنّه ابن رسول الله(ص)، وباقرُ العِلم ومفسِّر القرآن"([8]).
قبسٌ من أخلاقه الاجتماعيّة
أ.حوار مع مُلحد
كان (عليه السلام) جالساً في فناء الكعبة، فقصده رجل وقال له: هل رأيتَ
الله حتى عبدتَه؟
فقال (عليه السلام): ما كنتُ لأعبدَ شَيئاً لمْ أرَه.
قال الرّجل: فكيف رأيته؟
أجاب (عليه السلام): (لم ترَهُ الأبصار بمشاهدة العيان، ولكنْ رأته القلوب بحقائق
الإيمان، لا يُدرك بالحواس، ولا يُقاس بالنّاس، معروفٌ بالآيات، منعوتٌ بالعلامات،
لا يجوز في قضيّته، بانٍ من الأشياء، وبانت الأشياء، ليس كمثله شيء، ذلك الله لا
إله إلا هو)[9]. فلمّا سَمِع الرّجل الجواب تفنَّدَتْ أوهامه، فراح يقول: الله
أعلمُ حيثُ يجعل رسالته فيمن يشاء.
ب. حِلمُه:
كان الحِلمُ من أبرز صفات الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، فقد أجمَع
المؤرّخون على أنّه لم يُسيء إلى من ظلمه واعتدى عليه، وإنّما كان يقابله بالبرّ
والمعروف، ويعامله بالصّفح والاحسان، وقد رووا صوراً كثيرة عن عظيم حلمِه، كان من
تلك الصّور الرّائعة المدهشة من حلمِه: أنّ شاميّاً كان يختلف إلى مجلسه، ويستمع
إلى محاضراته، وقد أُعجب بها، فأقبل يشتدّ نحو الإمام وقال له: يا محمّد إنما أغشى
مجلسك لا حبّاً مني إليك، ولا أقول: إنّ أحداً أبغض إليَّ منكم أهل البيت، واعلم
أنّ طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين في بُغضكم، ولكنّي أراك رجلاً فصيحاً لك أدبٌ
وحسنُ لفظٍ، فإنّما اختلفُ إليك لحُسن أدبك!!. ونظر إليه الإمام(عليه السلام) بعطف
وحنان، وأخذ يُغدق عليه ببرّه ومعروفه حتى تنبّه الرّجل وتبيّن له الحق، وانتقل من
البُغض إلى الولاء للإمام(عليه السّلام)، وظلّ مُلازماً له حتّى حضرته الوفاة؛
فأوصى أن يصلّي عليه[10].
ج. كرمُهُ وسخاؤه:
لقد فُطر الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) على حبّ الخير وصِلة النّاس
وإدخال السّرور عليهم. ومن معالي أخلاقه أنه كان يبجّل الفقراء، ويرفع من شأنهم
لئلّا يرى عليهم ذلّ الحاجة، ويقول المؤرّخون: إنّه عَهِد لأهله إذا قصدهم سائل أن
لا يقولوا له: يا سائل خُذ هذا، وإنّما يقولون له: يا عبدَ الله بورك فيك[11] وقال:
سمّوهم بأحسن أسمائهم[12].
د ـ صِلَته لأصحابه:
وكان أحبّ شيء إلى الإمام(عليه السلام) في هذه الدّنيا صِلَته لإخوانه؛
فكان لا يملّ من صِلَتهم وصِلَة قاصديه وراجيه ومؤمّليه، وقد عَهِد لابنه الإمام
الصّادق(عليه السّلام) أن يُنفق من بعده على أصحابه وتلاميذه ليتفرّغوا إلى نشر
العلم وإذاعته بين النّاس[13].
ه ـ صدقاته على فقراء المدينة:
وكان الإمام (عليه السلام) كثير البرّ والمعروف على فقراء يثرب، وكان
يتصدّق عليهم في كلّ يوم جمعة بدينار ويقول: «الصّدقة يوم الجمعة تُضاعف الفضل على
غيره من الأيام»[14]. وروت مولاته سلمى فقالت: كان يدخل عليه إخوانَه فلا يخرجون من
عنده حتى يُطعمهم الطّعام الطّيب، ويُلبسهم الثّياب الحسنة، ويَهَبَ لهم الدّراهم،
وقد عذلَته سلمى عن ذلك فقال لها: يا سلمى ما يؤمّل في الدنيا بعد المعارف
والاخوان..[15]، وكان يقول: «ما حسّنت الدّنيا إلاّ صِلَة الاخوانِ والمعارف»[16].
و. عبادته:
كان كثيرَ الصّلاة حتى كان يصلّي في اليوم والّليلة مائةً وخمسينَ
رُكعة[17]، ولم تشغَلهُ شؤونه العلميّة ومرجعيّته العامّة للأُمّة عن كثرة الصّلاة،
التي كانت أعزّ شيء عنده; لأنّها الصّلة والرّباط الوثيق بينه وبين الله تعالى.
روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله الصّادق (عليه السّلام) أنّه قال: كنت أُمهّد
لأبي فرشه فانتظره حتى يأتي، فإذا آوى إلى فراشه ونامَ قُمت إلى فراشي. وقد أبطأ
عليّ ذات ليلةٍ فأتيتُ المسجدَ في طلبه، وذلك بعدما هدَأ النّاس، فإذا هو في المسجد
ساجد، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول: «سبحانَك الّلهم، أنت ربّي حقّاً
حقّاً، سجدتُ لك يا ربّ تعبّداً ورقّاً، الّلهم إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي... الّلهم
قِني عذابك يوم تَبعَث عبادك، وتُب عليّ إنّك أنت التوّاب الرّحيم»[18].
ز. زهدهُ في الدّنيا:
وزَهِد الإمام أبو جعفر (عليه السّلام) في جميع مباهج الحياة وأعرَض عن
زينتها؛ فلم يتّخذ الرّياش في داره، وإنّما كان يفرش في مجلسه حصيراً[19].
لقد نظر إلى الحياة بعُمق وتبصُّر في جميع شؤونها فزَهِد في ملذّاتها، واتّجه نحو
الله تعالى بقلبٍ مُنيب.
فعن جابر بن يزيد الجّعفي: قال لي محمّد بن عليّ(عليه السّلام):«يا جابر إنّي
لمحزون، وإنّي لمشتغل القلب».
فانبرى إليه جابر قائلاً: «ما حُزنك؟ وما شَغل قلبك؟».
فأجابه (عليه السّلام) قائلاً: «يا جابر إنّه من دخل قلبه صافي دين الله عزّ وجلّ
شغله عمّا سواه. يا جابر ما الدّنيا؟ وما عسى أن تكون؟ هل هي إلا مركبٌ ركِبته؟ أو
ثوبٌ لبسته؟ أو امرأةٌ أصبتها؟!»[20].
الإمام الباقر (عليه السّلام) وإقامة الشّعائر الحسينيّة
كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ذات دور كبيرٍ في إحياء الرّوح الثّورية،
وإلهاب الحماس في النّفوس المؤمنة بالله ورسوله ضدّ الحكّام الظّالمين، فكان الإمام
(عليه السّلام) يقوم بنفسهِ بإحياء الشّعائر الحُسينيّة، حيث تجسّدت الشّعائر
الحسينيّة بالممارسات التّالية:
1 ـ الحزن وإقامة مجالس العزاء: شجَّع الإمام على البكاء لمصاب جدّه
الإمام الحسين (عليهما السّلام) وأهل بيته، والأبرار من صحابته من أجل أن تتجذّر
الرّابطة العاطفيّة به (عليه السّلام) في المشاعر، وكان يقول: « من ذرفَت عيناهُ
على مُصاب الحسين ولو مثل البعوضة؛ غفر الله له ذنوبه »[21].
2 ـ الزّيارة: حثّ الإمام الباقر (عليه السّلام) على زيارة قبر جدّه
الإمام الحسين (عليه السّلام)، لتعميق الارتباط به شخصاً ومنهجاً، واستلهام روح
الثّورة منه، ومعاهدته على الاستمرار على نهجِه.
وكان يؤكّد لمحبّيه والمؤمنين بقيادته الاهتمام بها، ويقول: « مُروا شيعتنا بزيارة
الحسين بن عليّ، وزيارته مفروضة على من أقرّ للحسين بالإمامة »[22].
وأكّد (عليه السلام) على لزوم اقتران حبّ أهل البيت (عليه السلام) بزيارة قبر
الحسين(عليه السلام) كما جاء في قوله: « من كان لنا مُحبّاً فليرغب في زيارة قبر
الحسين(عليه السّلام)، فمن كان للحسين زوّاراً؛ عرّفناه بالحبّ لنا أهل البيت»[23].
3 ـ إنشاء الشّعر: كما كان(عليه السلام) يشجّع على قول الشّعر في الإمام
الحسين (عليه السلام) وقد بذل من أمواله لنوادِبٍ يندِبنَ بمِنى أيّام الموسم[24].
الشّهادة
لم يمُت الإمام أبو جعفر (عليه السّلام) حتفَ أنفه، وإنّما اغتالته
بالسّم أيدٍ أُمويّة أثيمة لا تؤمن بالله، وقد اختلف المؤرّخون في الأثيم الذي أقدم
على اقتراف هذه الجريمة. فمنهم من قال: إنّ هشام بن عبد الملك هو الذي أقدم على
اغتيال الإمام فدسّ إليه السّم[25]، والأرجح هو هذا القول؛ لأنّ هشاماً كان حاقداً
على آل النّبي بشدّة وكانت نفسه مُترعة بالبُغض لهم. ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم
على سمّ الإمام هو إبراهيم بن الوليد[26].
ويرى السّيد إبن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دمّ الإمام(عليه
السّلام)[27]، ومعنى ذلك أنّ إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمام(عليه السّلام)،
وإنّما كان مع غيره.
[1] الشّيخ الكليني، الكافي، ج1، ص469.
([2]) أبو زهرة، الإمام الصّادق، ص22.
([3]) الشّيخ المفيد، الإرشاد، ص280- 282.
([4]) إبن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3.
([5]) الشّيخ القرشي، حياة الإمام الباقر، ج1، ص139.
([6]) الذّهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص402.
([7]) عمدة الطلب، ص195.
([8]) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص 350.
[9] راجع: الفتال النيسابوري، روضة الواعظين، ص33.
[10] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص 66.
[11] ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 3، ص 208.
[12] الجاحظ، البيان والتبيين، ص 158.
[13] حياة الإمام محمّد الباقر(عليه السّلام)، ج 1، ص 124
[14] في رحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام)، ج 4، ص 12.
[15] صفة الصّفوة، ج 2، ص63.
[16] م.ن.
[17] تأريخ ابن عساكر، ج 51، ص 44، حلية الأولياء، ج 3، ص 182.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 323.
[19] دعائم الإسلام، ج 2، ص 158.
[20] البداية والنّهاية، ج 9، ص339.
[21] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 98، ص 1.
[22] المصدر السّابق، ج 44، ص 293.
[23] المصدر السّابق، ج 98، ص 4.
[24] مقتل الحسين للمقرّم، ص 106.
[25] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 46، ص 312.
[26] أخبار الدول، ص 111.
[27] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 46، ص216.