الهدف: التّعرف على مفهوم التّواضع وآثاره
الفرديّة والاجتماعيّة
مطلع الخِطبة
التّواضع يعني أن يرى الإنسان نفسه أقلّ الآخرين، وأن يقلِّل من شأن نفسه أمام
الآخرين، وهو من علامات سلامة الرّوح، فالإنسان المتواضع مهما كان أفضل من الآخرين،
ولكنه يستمدُّ تواضعه من إدراكه للعظمة الإلهيّة، فيتواضع الله ولعباد الله. رُوي
عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لأصحابه: “مالي لا أرى عليكم حلاوة
العبادة: قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التّواضع”([1]).
حدُّ التّواضع:
- وورد عن الإمام علي بن موسى الرّضا(عليه السّلام) قال عندما سُئّل: "مَا
حَدُّ التّواضع الّذي إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعًا؟"، فَقَالَ: "التّواضع
دَرَجَاتٌ مِنْهَا أن يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنَزِّلُهَا
مَنْزِلَتَهَا بِقَلْب سَلِيم لاَ يُحِبُّ أن يَأْتِيَ إلى أَحَد إلا مِثْلُ مَا
يُؤْتَى إليه، إن رَأىَ سَيِّئَةً درأها بِالْحَسَنَةِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، عَافٍ
عَنِ النّاس، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[2].
- وعن الإمام الرّضا (عليه السّلام): “إن من التّواضع أن يجلس الرّجل دون شرفه”([3]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السّلام): “عليك بالتّواضع فإنه من أعظم العبادة”([4]).
علامات التّواضع:
وبالنّسبة إلى علامات التّواضع، فقد وردت روايات لطيفة وجميلة في
الرّوايات الإسلامية، ففي حديث عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السّلام) نقرأ:
“ثَلاَثٌ هُنَّ رَأْسُ التّواضع: أن يَبْدَأ بِالسّلام مَن لَقِيَهُ، وَيَرْضَى
بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمجْلِسِ، وَيَكْرَهُ الرِّيَاء وَالسُّمْعَةَ” [5].
وعن الإمام الصّادق عليه السّلام: «من التّواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن
تسلّم على من تلقى. وأن تترك المراء وإن كنت محقًّا، ولا تحبّ أن تحمد على التّقوى»[6].
آثار التّواضع:
للكثير من أعمال الخير مضافًا إلى الأجر الأخروي والثّواب الإلهي، آثار
وبركات في هذه الدّنيا، نذكر هنا بعض فوائد وآثار صفة التّواضع عسى أن يجعلنا الله
من المتواضعين:
أ- العزّة والرّفعة: “إنّ التّواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة فتواضعوا
رحمكم الله”([7]).
وعن الإمام الصّادق (عليه السّلام) أنّه قال: “إنّ في السّماء ملكَين موكّلَين
بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبّر وضعاه”([8]).
ب- وسيلة للتّرقّي: عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): “التّواضع سلّم
الشّرف”([9])
ج- إنتظام الأمور وثمرة الأعمال: “بخفض الجناح
تنتظم الأمور”([10]).
لِمَن يكون التّواضع:
التّواضع في الثّقافة الإسلامية يكون لأعلام الدّين والمؤمنين، وأما
التّواضع للمستكبرين والعاصين والأغنياء فهو أمر سيّء ومرفوض. كما أنّ التّواضع إن
كان لغير الله ولغير ما يرضاه الله يكون متّصفًا بصفة الذّلة ويكون موجبًا لزوال
إنسانيّة الإنسان.
- عن الإمام علي(عليه السّلام): “من أتى غنيًّا فتواضع له لِغناه، ذهب ثلثا دينه”([11]).
- عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «إنّ في السّماء ملكَين موكلَين بالعباد، فمن
تواضع للّه رفعاه، ومن تكبّر وضعاه»[12].
- وقال النّبي صلّى اللّه عليه وآله: «إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم مني يومَ القيامة
مجلسًا، أحسنكم خُلُقًا، وأشدّكم تواضعًا، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة،
الثّرثارون وهم المستكبرون»[13].
- وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلبًا لما عند
اللّه، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء إتّكالًا على اللّه»[14].
وجدير بالذّكر أن التّواضع الممدوح، هو المتّسم بالقصد والاعتدال الّذي لا إفراط
فيه ولا تفريط، فالإسراف في التّواضع داعٍ إلى الخسّة والمهانة، والتّفريط فيه باعث
على الكِبر والأنانية.
وعلى العاقل أن يختار النّهج الأوسط، المبرّأ من الخسّة والأنانية، وذلك بإعطاء كلّ
فرد ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهّلاته.
لذلك لا يحسن التّواضع للأنانيّين والمتعالين على النّاس بزهوهم وصلفهم. إنّ
التّواضع والحالة هذه مدعاة للذّلّ والهوان، وتشجيع لهم على الأنانية والكِبَر، كما
يقول المتنبّي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته*** وإن أنت أكرمت اللّئيم
تمرّدا
وممّا قيل في التّواضع قول المعرّي:
يا والي المصر لا تظلمن*** فكم جاء مثلك ثمّ انصرف
تواضع إذا ما رُزقت العلا*** فذلك مما يزيد الشّرف
من تواضع رسول الله(صلّى الله عليه وآله):
لقد كان أفضل الأنبياء، نبي الإسلام من أكثر النّاس تواضعًا وكان من
تواضعه أنّه كان يُطعم الأغنام العلف ويسقيها الماء ويرقّع ثوبه وحذاءه ويأكل
الطعام مع خدامه ويساعدهم في طحن القمح والشعير، ويشتري من الأسواق ويسلّم على
الغني والفقير، والصغير والكبير ويقبَل الدّعوة من الجميع ويسبقهم بالسّلام([15]).
- رُوي أنه (صلّى الله عليه وآله) كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول
الله عليّ ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقال (صلّى الله
عليه وآله): وعليَّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك. فقال: قد علمت
أنّكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميَّز عليكم، فإنّ الله يكره من عبده أن يراه
متميِّزًا بين أصحابه[16]، وقام فجمع الحطب.
من تواضع النّبي عيسى(عليه السّلام):
قال عيسى ابن مريم (عليه السّلام): “يا معشر الحواريّين لي إليكم حاجة
أقضوها لي:
قالوا: قُضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم.
فقالوا: كنّا نحن أحقُّ بهذا يا روح الله.
فقال: إنّ أحقّ النّاس بالخدمة العالم، إنّما تواضعتُ هكذا لكي تتواضعوا بعدي في
النّاس كتواضعي لكم، ثمّ قال عيسى(عليه السّلام): بالتّواضع تعمُر الحكمة لا
بالتكُّبر، وكذلك في السّهل ينبت الزّرع لا في الجبل”([17]).
من تواضع الإمام السّجّاد (عليه السّلام):
عن الإمام الصّادق (عليه السّلام): "كان علي بن الحسين لا يسافر إلّا مع
رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرّفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر
مرّة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟.
قالوا: لا، قال: هذا علي بن الحسين فوثبوا فقبّلوا يده ورجله وقالوا: يا بن رسول
الله أردت أن تُصلينا نار جهنّم لو بدرت منّا إليك يد أو لسان أما كنّا قد هلكنا
آخر الدّهر فما الّذي يحملك على هذا فقال: إنّي كنت قد سافرت مرّة مع قوم يعرفونني
فأعطوني برسول الله ما لا أستحقّ فإنّي أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحبّ
إليّ"([18]).
في طريق اكتساب صفة التّواضع:
- أن تسبق الآخرين بالسّلام وأن لا تنتظر مبادرتهم هم بالسّلام.
- أن تجلس في أوّل مكان ينتهي بك إليه المجلس.
- أن لا تأمر الآخرين وتنهاهم.
- أن تقوم بأمور نفسك بنفسك.
- أن تنظر إلى الآخرين بعين الرّحمة والتّعاون.
- الحذر من الوقوع في الجدال.
- أن تخلص في عملك لله عزّ وجلّ دون نظر إلى الآخرين.
- أن تلبس لباس التّواضع والحذر من الملابس الفاخرة.
- أن تخدم رفقة السفر.
- إطاعة الحقّ والخضوع للقانون.
- أن تقرأ سيرة الأعلام السّابقين وتأخذ العبرة منها.
وصيّة للإمام الخميني(قده)
فيا أيّها العزيز: ما يحتوي عليه رأسك من الدّماغ، تحتويه رؤوس الآخرين
أيضًا، إذا كنت متواضعًا إحترمك النّاس قهرًا واعتبروك كبيرًا، وإذا تكبّرت على
النّاس لم تنلْ منهم شيئًا من الاحترام، بل إذا استطاعوا أن يذلّوك لأذلّوك ولم
يكترثوا بك، وإن لم يستطيعوا من إذلالك لكنت وضيعًا في قلوبهم وذليلًا في أعينهم،
ولا مقام لك عندهم، افتح قلوب النّاس بالتّواضع، فإذا أقبلت عليك القلوب ظهرت
آثارها عليك، وإن أدبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك[19].
([1]) الشّيخ النراقي، جامع السعادات، ج1، ص395.
[2] الشّيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 124.
([3]) المصدر نفسه، ج3، ص 187
([4]) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص119.
[5] كنز العمّال، ح 8506.
[6] الشّيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 122.
([7]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص215.
([8]) المصدر نفسه، ص215.
([9]) شرح غرر الحكم، ج1، ص263.
([10]) المصدر نفسه، ج3، ص229.
([11]) بحار الأنوار، ج75، ص374.
[12] الشّيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 122.
[13] الحرّ العاملي، وسائل الشّيعة، ج15، ص378.
[14] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصّالح، ص547.
([15]) بحار الأنوار، ج70، ص208.
[16] سفينة البحار، ج 2، ص691.
([17]) الشّيخ الكليني، الكافي، ج1، ص37.
([18]) الشّيخ الصّدوق، عيون أخبار الرّضا، ج1، ص156.
[19] الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص108.