نشأتُه وتعظيم الامام الرّضا (عليه السلام) له:
- روى يحيى الصنعاني قال: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وهو
بمكّة، وكان يقشّر موزًا، ويطعم أبا جعفر، فقلت له: جعلت فداك، هذا المولود المبارك؟
قال (عليه السلام): نعم يا يحيى هذا المولود الذي لم يولد في الاسلام مثله مولود
أعظم بركة على شيعتنا منه[1].
- بعث الفضل بن سهل إلى محمّد بن أبي عباد كاتب الامام الرضا (عليه السلام) يسأله
عن مدى علاقة الامام الرضا (عليه السلام) بولده الجواد (عليه السلام) ، فأجابه: ما
كان الرضا يذكر محمّدًا إلا بكنيته، يقول: كتب لي أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر
(عليه السلام) وكان آنذاك بالمدينة، وهو صبيّ، وكانت كتب أبي جعفر ترد إلى أبيه وهي
في منتهى البلاغة والفصاحة.
- وحدّث الرواة عن مدى تعظيم الامام الرضا (عليه السلام) لولده الجواد، فقالوا: إنّ
عباد بن إسماعيل، وابن أسباط كانا عند الامام الرضا بمنى إذ جيء بأبي جعفر فقالا له:
هذا المولود المبارك.؟. فاستبشر الامام وقال: نعم هذا المولود الذي لم يولد في
الاسلام أعظم بركة منه[2].
من هو خليفة الامام الرضا(عليه السلام)؟
سُئل الامام الرضا عليه السلام، أتكون الامامة في عمٍّ أو خالٍ؟ فقال: «لا،
فقلت: ففي أخ؟ قال: لا، قلت: ففي مَن؟ قال: في ولدي، وهو يومئذٍ لا ولد له»[3].
لكنّ الامام (عليه السلام) كان يقف بحزم أمام هذه الشُبهات المثارة، ويجيبهم جواب
الواثق المطمئنّ من نفسه بأنّ الليالي والأيام لا تمضي حتى يرزقه الله ولدًا يُفرّقُ
به بين الحقّ والباطل. هذا الموقف نستشفّه من رواية محمّد بن يعقوب الكليني، قال:
كتب ابن قياما (وهو واقفي مخالف معروف) إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كتابًا
يقول فيه: كيف تكون إمامًا وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن (عليه السلام): «وما علمك
أنّه لا يكون لي ولد؟! والله لا تمضي الأيّام والليالي حتى يرزقني الله ذكرًا
يُفرّق بين الحق والباطل»[4].
إستمرار التشكيك بمن يخلف الامام الرضا(عليه السلام)
وحتى بعد مولد أبي جعفر التقي (عليه السلام)، لم يكن المشكّكون منفكّين
من محاولاتهم تلك حتّى رأوا البيّنة وأذعنوا لها صاغرين، هم ومن جاءوا بهم من
القافة أجمعين. وهنالك رقى ابن الرضا (عليه السلام) درجات منبرٍ، وألقى خطبة قصيرة
بليغة، وصلت في مداها أقصى غاية المنى في تأنيب المشكّكين، وردع (الواقفة) حين
طعنوا في بنوّة أبي جعفر (عليه السلام) وانتسابه للامام الرضا (عليه السلام). فلقد
جاءوا بالافك، وقول الزور...
عمر الامام ومنصب الامامة:
ليس غريبًا إذا قلنا: إنّه لا مدخليّة للعمر في تسلّم منصب الامامة،
ولو أنّ ظاهرة الامام الجواد (عليه السلام) كانت الأولى من نوعها في الاسلام على ما
هو معهود ومعروف! إلاّ أنّها لم تكن الأولى على مستوى حركة الأنبياء والرسل، فذاك
عيسى بن مريم آتاه الله الحكمة والنبوة وكان في المهد صبيًّا، وقبله كان يحيى، فقد
آتاه الله الحكم والكتاب وهو صبيّ، قال تعالى: وآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً[5].
فإنّ الظاهرة التي وُجدت مع هذا الامام وهي ظاهرة تولّي شخص للامامة وهو بعد في سنّ
الطفولة... حيث تُوفّي أبوه وعمره لا يزيد عن سبع سنين. ومعنى هذا أنّه تولّى زعامة
الطائفة الشيعيّة روحيًّا وفكريًّا وعلميًّا ودينيًّا وهو لا يزيد عن سبع سنين، هذه
الظاهرة ظهرت لأوّل مرة في حياة الأئمّة (عليه السلام) في الامام الجواد (عليه
السلام)[6].
وكان الامام الرضا (عليه السلام) قد صرّح بهذا في العديد من الروايات التي تنصّ على
أنّ مولوده الصغير سيكون الامام من بعده بالرغم من صغر سنِّه[7]، وبذلك فقد حلَّ
الامام الرضا (عليه السلام) إشكالية المسألة في حياته وأرجع أصحابه وشيعته وجميع
المسلمين إلى ابنه الجواد(عليه السلام).
ثم إنّ الامام الجواد (عليه السلام) نفسه قد أدرك الشكّ والحيرة من بعض أصحاب أبيه
في هذا الأمر؛ لأنّهم لم يألفوا ذلك من قبل فأراد في بعض المواقف تبيان هذه الظاهرة،
وإلفات نظر المتردّدين إلى الحقيقة التي غابت عن أذهانهم، ولهذا عندما يُسأل عن هذا
الموضوع وهو ابن سبع سنين أو نحوها، يجيب سائله إجابة قاطعة، جواب واثق مطمئنّ من
إمامته على الناس، وهو ما رواه الكليني بالاسناد عن محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال:
سألته ـ يعني أبا جعفر (عليه السلام) ـ عن شيء من أمر الامام، فقلت: يكون الامام
ابن أقل من سبع سنين؟ فقال: «نعم، وأقلّ من خمس سنين»[8].
الحالة السياسيّة في عصر الامام (عليه السلام)
لقد تميّزت الفترة الزمنية التي عاشها الامام الجواد (عليه السلام) بعد
استشهاد والده الامام الرضا (عليه السلام) بهدوء سياسي نسبي، بعد أن تمّ تصفية
الحساب في وقت سابق، بين الأخوين العباسيّين الأمين والمأمون بمقتل الأوّل وتفرّد
الثاني بالسلطة السياسيّة، وبعد استتباب الأوضاع السياسيّة في بغداد، واستقرار شؤون
الدولة في العاصمة الجديدة (بغداد)، تناهى إلى سمع المأمون أخبار أبي جعفر ابن
الرضا (عليه السلام) واحتفاء الناس به، وظهور كراماته ومعجزاته.
فأرسل خلف الامام ابن الرضا (عليه السلام) يستدعيه من المدينة إلى بغداد في تلك
السنة. ولهذا فإنّ التحرّك السياسي للامام الجواد (عليه السلام) بدأ من السنة
التالية التي وصل فيها إلى بغداد بعد أن أدّى مناسك الحجّ، وعاد إلى المدينة ليجمع
أهل بيته وعمومته من الهاشميّين وخدمه لمرافقته إلى بغداد، وكان له (عليه السلام)
بعد ذلك أوّل لقاء مع المأمون العباسي، ومن ذلك الوقت يبدأ المسلسل التاريخي
السياسي الاجتماعي، والعلمي لحياة جواد الأئمة (عليه السلام).
ومن الواضح تاريخيًا أنّ السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد الامام الرضا (عليه
السلام) كانت مشحونة بالحذر والترقّب من قبل الشيعة عمومًا والبيت الهاشمي خصوصًا؛
للسياسة التي اتّخذها المأمون في تقريب الامام الجواد (عليه السلام) وإنزاله تلك
المنزلة منه، وهذا الترقّب والحذر راجع إلى عدة أمور لعلّ من أهمها:
- إظهار شغف المأمون بأبي جعفر (عليه السلام) بعد أن استدعاه من المدينة المنوّرة
إلى بغداد؛ لِما رأى من غزارة علمه وهو لم يبلغ الحلم بعد، ولم يحضر عند أحد
للتتلمُذ والدراسة، ثم إنّ صغر السنّ وامتلاك علوم جمّة والجلوس للمناظرة والحجاج
مع كبار الفقهاء هي ظاهرة فريدة وغريبة في دنيا الاسلام.
- المأمون ولأجل رفع أصابع الاتّهام عنه باغتيال الامام الرضا (عليه السلام)، أراد
أن يثبت ظاهريًّا للعوام والخواص حبّه للنبي (ص)، من خلال بقائه على ولاء وحبّ
البيت العلويّ؛ لذلك أظهر اهتمامًا زائدًا، وتكريمًا متميّزًا للامام الجواد(عليه
السلام)، بل وأقرّ له ما كان يعطي أباه الرضا (عليه السلام) من عطاء وزيادة، فبلغ
عطاؤه ألف ألف درهمٍ سنويًّا.
- تزويجه إياه من ابنته ( زينب ) المكناة بأم الفضل.
- أمره ولاة الأقاليم والخطباء بإظهار فضائل الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه السلام) على المنابر في جميع المناسبات.
من وصايا الامام الجواد
رُوي أنه قال رجل للإمام الجواد(عليه السلام): أوصني، قال الإمام(عليه
السلام): وتقبل؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض
الشهوات، وخالف الهوى، واعلم أنّك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون[9].
تتحدّث هذه الوصية عن خصال جامعة تتوزّع على المحاور الآتية:
- التربية على الصبر.
- البساطة في العيش والتكيّف مع الفقر.
- مخالفة الهوى ورفض الشهوات.
[1] الشيخ الكليني، الكافي،
ج 6، ج 361.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 50، ص 20.
[3] الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 286.
[4] المصدر نفسه، ج 1، ص 320.
[5] سورة مريم، الآية 12.
[6] من محاضرة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر في 29 ذي القعدة الحرام سنة 1388 هـ.
[7] يراجع: الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 321-322.
[8] المصدر نفسه، ج1، ص 384.
[9] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 455.