الهدف: التعرُّف على فضائل شهر شعبان، وقبسٌ
من سِيَر الإمام الحسين والإمام السجّاد وأبو الفضل العباس (عليهم السلام).
مَطلع الخطبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة، وأسماعاً واعية، وقد
أفلَح من جعل الخير شعاره، والحق دِثَاره، وصلّى اللّه على خير خلقه الذي جاء
بالصدق من عند ربّه وصدَّق به، الصادق محمّد صلّى اللّه عليه، وعلى آله الطاهرين من
عترتِه وأُسرته، والمنتَخبين من أهل بيتِه وأهلِ ولايته[1].
أمّا بعد،
السلام عليكم أيُّها الأحبّة جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته
قال الله العظيم في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[2].
مَعشر الإخوة الكرام؛ ها قد مضى شهر رجب، وأظلّنا شهر شعبان وهو من أشرف شهور العام،
شرّع الله تعالى لنا فيه الصيام[3]، ورغّبنا فيه إلى إصلاح ما بيننا وبين إخواننا
من الخِصام، وهذا الشهر تعظِّمه حملة العرش، وتَعرف حقّه، ويُزاد فيه بأرزاق
المؤمنين، وهو شهر العمل فيه يضاعف الحسنة بسبعين، والسيّئة محطوطة والذنب مغفور،
والجبّار جلّ جلاله ينظر إلى صُوامه وقوامه، فيباهي بهم حملة العرش[4].
فهلمّوا أيُّها الأفاضل لنتعرّف على بعضٍ من فضائل هذا الشهر المبارك
شعبان ومحبّة النبي (ص)، والإقتداء به،
معاشر الأحباب: سُئل الإمام أبي
عبد الله الصادق (ع) عن شهر شعبان، فقيل له : هل كان أحد آبائك يصومه، فقال (ع):"خير
آبائي رسول الله (ص)، وأكثر صيامه في شعبان"[5].
وكان الإمام زين العابدين (ع) إذا أهل شعبان جمع أصحابه، فقال:" معاشر أصحابي
أتدرون أيُّ شهر هذا ؟ هذا شهر شعبان، وكان رسول الله (ص) يقول: شعبان شهري؛ ألا
فصوموا فيه محبّةً لنبيِّكم، وتقرُّباً إلى ربّكم، فو الذي نفسُ عليّ بن الحسين
بيدِه لسمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "من صام
شعبان محبّة لنبيّ الله عليه السلام، وتقرُّباً إلى الله عزّ وجل، أحبَّه الله عزّ
وجل، وقرّبه من كرامته يوم القيامة، وأوجَب له الجنّة"[6].
أيُّها المؤمنون: إنّ النبيّ (ص) كان يُرَغِّب
في صوم التطوّع، ويُكثر من الصوم في شهر شعبان، حتّى اشتُهر عن شعبان أنّه شهر رسول
الله (ص)[7]، وذكر بعض رواة السيرة النبويّة أنّ المصطفى (ص) كان يصوم فيه حتّى
يقولوا لا يُفطر، وقد فاتَحه في ذلك أحدهم، فقال: يَا رَسُولَ اللّهِ، لَمْ أَرَكَ
تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: "ذَلِكَ
شَهْرٌ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ
فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي
وَأَنَا صَائِمٌ"[8]
معاشر المؤمنين؛ إنّ الله سبحانه يقول:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيرًا }[9].
والنّبي (ص) كان حريصاً على القيام بالطاعات، والإكثار منها في شعبان، كي يعلم أهل
الإسلام، فيبادروا لتدريب أنفسِهم على طاعات رمضان، حتّى إذا ما جاء رمضان سهّل
عليهم الطاعة فيه، ولم يُضيّعوا الفرصة انتظاراً للتعوّد على الطاعة، وقد روي عنه
(ص) أنّه قال:"أنتم في ممرّ الليل والنهار في آجالٍ منقوصة وأعمالٍ محفوظة، والموت
يأتيكم بغتة، فمن يزرع خيراً يحصد غبطة، و من يزرع شرّاً يحصد ندامة"[10].
مضى رجب وما أحسنت فيه ... وهذا شهر شعبان المباركْ
فيا من ضيَّع الأوقات جهلاً ... بقيمتها أفِق واحذر بَوَارَكْ
تدارَك ما استطعت من اللّيالي ... فخيرُ ذوي الفضائل من تداركْ
كثرة الإستغفار في شعبان، وأخْذُ العِبرة:
أيُّها الأحبّة: سُئل الإمام
الصادق عن أفضل الأدعية في شهر شعبان ؟ فقال (ع): "الاستغفار، إنّ من استغفر في
شعبان كلّ يوم سبعين مرّة كان كمن استغفر في غيره من الشهور سبعين ألف مرّة"، قال
السائل قلت: فكيف أقول ؟ قال: "قل أستغفر الله وأسأله التوبة"[11]
فبادروا يرحمكُم الله لكَثرة الاستغفار في هذا الشهر العظيم، واعلموا أنّ مِن نِعَم
الله علينا أنْ مدّ في أعمارِنا، وجعلنا نُدرك خيرات هذا الشهر، فيتوجَّب علينا
الإستفادة منها تمام الفائدة، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر، فما بلغَه، وكم مؤمِّل
إدراكَه فما أدركَه، والحال أمام أنظاركم جليّ، فكم حبيبٍ لنا فاجأهُ الموت ففقدناه،
وكم عزيزٍ علينا دفنّاه، فخُذ العِبرة واتّعظ:
يا ذا الذي ما كفَاهُ الذنبُ في رجب ... حتَّى عصى ربَّه
في شهر شعبانِ
لقد أظلّك شهرُ الصّوم بعدهُما ... فلا تصيّره أيضًا شهرَ عِصْيانِ
واتلُ القُرَآن وسبِّح فيه مجتهداً ........ فإنّه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممّن صام في سَلَفٍ ... من بين أهلٍ وإخوانٍ وجيرانِ
أفناهم الْموتُ واستبقاك بعدَهم ... حيّاً فما أقرب القاصي من الداني
شعبان ومولد ريحانة رسول الله (ص):
معاشِر أهل الإيمان، اعلموا أنّ الله سبحانه
عَظّمَ بعضَ الأيام قَدراً، وأَطْلَعَ لها في سماءِ الفضائِلِ فخراً، وَنَشَرَ فيها
أعْلامَ نِعَمِهِ نَشراً، ومن هذه الأيام المعظّمة ذلك اليوم الميمون الذي كان في
غُرّة شعبان من أحداث السنة الرابعة من الهجرة، حيث وُلد سيّد شباب أهل الجنّة،
مولانا الإمام أبي عبد الله الحسين (ع).
وعند ولادته المباركة أخذه النبيّ (ص) وحملَه بين ذراعيه، وقبّله ثمّ حنّكه، وسمّاه
حُسيناً، وقال: "حسينٌ منّي، وأنا من حسين، أَحَبَ اللهُ من أحب حسيناً؛ حسينٌ سبط
من الأسباط"[12]، و"الأسباط "، جمع سبط، وهو ولد البنت، والعبارة لتأكيد أنّه بضعةٌ
منه، وقد أكّد به البعضيّة وقرّرها، وتأتي أيضاً لتأكيد معنى القبليّة، كما في قوله
تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا
أُمَمًا}[13]، ويحتمل إرادته هنا على معنى أنّه يتشعّب من الحسين قبيلة،
ويكون من نسلِه خلْق كثير، وقد كان، والـحُـسـين (ع) أمّة من الخير
وفيهِ رسولُ اللهِ قالَ وقولُهُ صريحٌ صحيحٌ، ليس
في ذالكُمُ نُـكرُ
حُبِي بثَلاثٍ ما أحاطَ بمِثلِها وَلِيٌّ فمَنْ زيدٌ سِواهُ ومَنْ عَمرو؟
له تربةٌ فيها الشِّفاءُ، وقُـبَّةٌ يُجابُ بها الداعي إذا مَسَّهُ الضُّرُ
وذريَّةٌ دُرِّيَّةٌ مِنهُ تِسعةٌ أئِمَّةُ صِدقٍ لا ثَمانٍ ولا
عَـشرُ
أيُّها المؤمنون الأعزّاء: إنّ في هذا الشهر
الكريم ليلة قال عنها إمامنا الصادق (ع): "إذا كان ليلة النصف من شعبان، نادى مُنادٍ
من الأُفق الأعلى: زائري الحُسين ارجعوا مغفوراً لكم، ثوابكم على ربّكم، ومحمّد
نبيّكم"[14]، فلا تنسوا زيارة المولى الحسين في هذه الليلة الغرّاء، فإنّ عطاء سيّد
الشهداء ومِنّته يطوّقان أعناقَنا.
مولد أبي الفضل العباس (ع):
وتتشعّب الخيرات في شعبان أيُّها الأحبة، ففي الرابع منه؛ سنة ستّ وعشرين من الهجرة
وُلِد قمر بني هاشم العبد الصالح الوفيّ العباس بن أمير المؤمنين عليّ (ع)، فأطلّ
على هذا العالم بوجهِه الذي تتموّج عليه أمواج الحُسن، ويطفح عليه رواء الجمال،
وتعلو أسرّة جبهته أنوار الإيمان، تلك الأنوار التي جعلت أئمّة الهدى (عليهم السلام)
يشهدون له بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النّبي المـُرسل، ويَشيدون
ببصيرته النافذة، وإيمانهِ الصلْب، وإخلاصه لله ولرسوله ولرسالته، فلا بدّ أن
تمنحنا ذكرى مولدهِ القوّة في حفْظ خطّ الإسلام؛ والوقوف بثبات في مواجهة
المستكبرين الذين يريدون إكفاء الإسلام على وجهه وإضعافِه، وليكُن شعار كلّ واحد
منّا، سواءً في ساحة المعركة الثقافيّة أو السياسيّة أو في سوْح المعارك المسلّحة
التي فُرضت علينا، "إني أحامي أبداً عن ديني"، ليكون كلّ مجتمعنا حركةً مُباركةً في
خطّ الإسلام العظيم.
مولِد الإمام السجّاد (ع):
أيُّها المؤمنون الكِرام، تتوالى الخيرات في
شهر شعبان، فيطالعنا اليوم الخامس منه بولادة حفيد الرسالة الإمام السجّاد علي بن
الحسين (عليهم السلام)[15]، وهو الذي كان كآبائه الطاهرين مِثالاً في التقوى والزهد
والعبادة؛ حتى عُرف بين الخاصّة والعامّة بـ (زين العابدين)، وكان له من المكانة في
قلوب المسلمين كافّة وتعلُّقهم به ما تعجَز الأقلام عن وصفِه، لـِما كانت عليه من
آثار الجلال وأخلاق النبوّة وسيماء الصالحين، وهو بعد وصيّ ذلك الإمام العظيم الذي
ستبقى حرقةُ قتلِه تلتهبُ في نفْسِ كلِّ شريف، والمسؤول الأوّل عن حَمْل رسالته،
ومواصلة طريقه، وقد فعل (ع) ، وركّز في ضمائر الناس ثورة الحسين باعتبار أنّ سيّد
الشهداء (ع) خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه فعلاً، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن
المنكر، داعياً لتحكيم دين الله، ولم يخرج "أَشِراً ولا بَطراً".
ومن خلال ذلك استطاع الإمام السجّاد (ع) فضْحَ الشرعيّة المزيّفة التي تقنّع بها
الحكُّام الظلمة، وكشْف زيف شعاراتهم، ومزاعِم انتمائهم للنبيّ والوحي والرسالة
الإسلاميّة، وبالتالي أوضح معالم الإسلام المحمديّ الأصيل. فيتوجّب علينا أن نأخذ
من حياته وحياة آبائه وأبنائه الطاهرين المواعظ والعِبَر والدروس، وأن نستلهِم من
سيرتهم المجيدة المـُثُل العليا التي ننتصر للإسلام إذا تمثّلنا بها.
وفي الختام نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإيّاكم من الذين يغتنمون مواسم الخيرات،
وما فيها من فضائل الشهور والأيّام والساعات، ومن الذين يتقرّبون إلى مولاهم بما
فيها من الطاعات، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ}[16]، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام
على خير خلقِه محمّد وآله الطاهرين.
[1] من مطلع خطبة خطبها زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما
السلام).
[2] سورة يونس، الآيتان 5 و 6.
[3]صيام شهر رمضان فُرض في شعبان من السنة الثانية للهجرة النبويّة.
[4]مقتبسٌ من حديثٍ مرويٍّ عن النبيّ (ص) في فضائل شهر شعبان، يُراجع سفر الشيخ
الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القميّ، فضائل الأشهر الثلاثة، ص46، حديث 24،
طبعة1، مكتبة داوري، قم.
[5]الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص60و61، طبعة2، دار
الشريف الرضي للنشر، قم.
[6] الشيخ الصدوق محمّد بن علي، فضائل الأشهر الثلاثة، ص61، حديث43.
[7]قال الإمام الصادق (ع):"وكان رسول الله (ص) يقول: شعبان شهري"، المصدر السابق،
ص60.
[8]الشيخ الصدوق محمّد بن علي، فضائل الأشهر الثلاثة، ص51، حديث 26، ورواه أحمد بن
شعيب النسائيّ، السنن الكبرى، ج2، ص12، حديث 8355، طبعة1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[9] سورة الأحزاب، الآية 21.
[10]أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص473، المجلس السابع عشر، طبعة1، دار
الثقافة، قم.
[11]الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ، فضائل الأشهر الثلاثة، ص56، حديث 34.
[12] محمّد بن عيسى الترمذيّ، الجامع الصحيح سُنن الترمذيّ، ج5، ص658، ح3775، باب
31، من طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، ورواه البُخاري في الأدب المفرد،
وأحمد بن حنبل في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه،وابن ماجة القزويني في سُننِه،
والحاكم النيسابوري في مُستدركِه، والطبرانيّ في مُعجمهِ الكبير، وابن حبان في
صحيحه، وغيرهم.
[13] سورة الأعراف، الآية 160.
[14]جعفر بن محمّد بن قولويه، كامل الزيارات، ص180، باب 72، حديث 3، طبعة1، دار
المرتضوية، النجف.
[15]كانت ولادته (ع) في الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، في أيّام جدّه
أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) وقبل وفاته بسنتين، يراجع الإربلي، كشف الغُمّة
في معرفة الأئمّة، ج2، ص73-74.
[16] سورة التوبة، الآية 105.