الهدف؛ التذكير بمعالم المنهج التربويّ للإمام
الصادق عليه السلام.
محاور الخِطبة؛
1 - مَطْلع الخطبة.
2 - من سلالة النبيين.
3 – ما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ.
4 - جامعة الإمام الصادق (عليه السلام).
5 - من روّاد جامعة الإمام الصادق (عليه السلام).
6 - معالم المنهج التربوي الجعفري.
7 - الناصح الأمين.
8 – هذه آداب جعفر (عليه السلام).
9- حرص الإمام الصادق (عليه السلام).
10- مكانك من أهل البيت عليهم السلام.
مطلع الخطبة؛
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى السلام على خاتم النبيّين وأشرف الخلق
أجمعين سيّدنا ومولانا رسول الله أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين
الطاهرين، وبعد؛
قال الله العظيم في كتابه الكريم: {أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[1].
أيّها المؤمنون الكرام؛ في هذا اليوم العظيم سنستحضر وإيّاكم صور من حياة سيّد آل
إبراهيم، وصفوة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فرع شجرة النبوّة، ومعدن
العِلم؛ البحر الرائق، وأمين الله على الحقائق مولانا الإمام أبي عبد الله جعفر بن
محمد الصادق (عليهما السلام). وكيف لا يكون كذلك، وهو عيش العلم وموت الجهل، يُخبر
حِلمه عن عِلمه، وظاهرهُ عن باطنِه، وصمتُه عن حكم منطِقه، لا يخالف الحقّ ولا
يختلف فيه، وهو دعامة الاسلام، ووليجة الاعتصام، به عاد الحق الى نصابه، وانزاح
الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبتِه
مِن مَعشَرٍ حُبُّهُم دينٌ وَبُغضُهُمُ كُفرٌ
وَقُربُهُمُ مُنجىً وَمُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بَعدَ ذِكرِ اللَهِ ذِكرُهُمُ في كُلِّ بِدءٍ وَمَختومٌ بِهِ
الكَلِمُ
إِن عُدَّ أَهلُ التُقى كانوا أَئمَّتَهُم أَو قيلَ مَن خيرُ أَهلِ الأَرضِ قيلَ
هُمُ
من سُلالة النبيّين؛
أيّها الأخوة الأفاضل؛ لا نبالغ إذا قلنا لو كانت بحار الدنيا مداداً وأشجارها
أقلاماً وأهلها كُتّاباً، فكتبوا عن مناقب الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
وفضائله ما أحصوها، ولذلك سنكتفي بالإشارة إلى بعض المواقف التي تخللت حياته
المباركة، وظهر من خلالها بعضاً من أحواله وأقواله الشريفة التي رسمت معالم منهجه
التربوي العظيم. أدرك (عليه السلام) خمسة عشر سنة من حياة المربّي العظيم جدّه
الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وكان يحضر مجالسه، ويستمع إلى أحاديثه وأماليه،
فأخذ ينهل من عيون علوم ومعارف وأخلاق جدّه، فاستوعب كلّ ما هو خير وفاضل.
عاش (عليه السلام) في خدمة والده، وتحت ظلّه أربعاً وثلاثين سنة، وكان يتبعه
اتّباع الفصيل أثر أمّه. يرفع له باقر علوم النبيّين في كلّ يوم من أخلاقه علماً،
ويأمره بالاقتداء به، وكان (عليه السلام) يرافقه في حِلّه وترحالِه، في سفره وحضره،
وكان صامتاً لا يتصرّف في شيء من الشؤون في حضرة والده العظيم. وقد قال صاحب جدّه
الإمام السجاد (عليه السلام) عمرو بن أبي المقدام:"كنت إذا نظرت الى جعفر بن محمّد؛
علمت أنّه من سلالة النبيّين"[2].
بلى والله؛ إنّ مجرّد النظر إلى هذا الإمام العظيم كفيل بالعلم أنّه من صفوة سلالة
النبيّين، فنور "قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوة، وطهارة أفعاله تصدع بأنّه من
ذرية الرسالة"[3].
روى أبان بن عثمان عن أبي الصباح الكناني قال: نطر أبو جعفر (الباقر) عليه السلام
إلى أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله
عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
}[4] [5].
وقد انتقلت إليه إمامة وقيادة الأمّة الاسلامية بعد وفاة والده الإمام الباقر عليه
السلام. وبعد تخرُّجه من مدرستَي جدّه وأبيه، وتصدُّرِه إمامة المسلمين صمّم على
تشييد جامعته العلمية الكبرى.
ما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ؛
معاشر المؤمنين؛ يعلم القاصي والداني، من علماء المسلمين، أنّ للإمام الصادق (عليه
السلام) في زمانه فضل السبق على فقهاء أهل الإسلام جميعاً. فقد كان إمام الحنفية
أبو حنيفة النعمان يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأكثر الفقهاء عِلماً،
وأوسعهم إحاطة[6]، وكان إمام المالكية مالك بن أنس الأصبحي يختلف إليه دارساً راوياً،
وقد نقل في وصف بعض أحواله، فقال:"اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً، وما كنت أراه
إلا على ثلاث خصال"إما مصل، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن"، وما رأيته يحدّث عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا على طهارة، وكان لا يتكلّم فيما لا يعنيه، وكان
من العلماء العبّاد الزهّاد الذين يخشون الله"[7]؛ و"ما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ،
ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً"[8].
نشأة جامعة الإمام الصادق (عليه السلام)؛
عاصَر الإمام الصادق (عليه السلام) ساحة سياسيّة مضّطربة وفوضوية، فكانت مهمّته في
هذه الظروف المـُظلمة هي مهمّة الإمامة "وفق منظور أهل البيت"، وتتلخّص في طرح
الفكر الإسلامي الصحيح، أي تبيين الإسلام كما جاء في القرآن وسنّة رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) مع مكافحة كلّ الانحرافات، والتشويهات الجاهلة والمـُغرِضة، وكذلك
التخطيط لإقامة نظام العدالة الإسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته، وكِلا
المهمَّتَين "المهمّة الفكرية والمهمَّة السياسية"، تشكّلان خطراً كبيراً على
النظام الحاكم. ليست المـُهمّة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمّة الفكرية
أيضاً تلغي تلك الأفكار والمفاهيم المنحرفة التي قدّمها السلطان ووعّاظه باسم الدين
إلى المجتمع. من هنا؛ فإنّ العملية الفكرية لها الأولويّة، لأنّها تقضي على الزيف
الديني الذي يستند إليه الجهاز الحاكم في مواصلة ظُلمِه، خصوصاً أنّ المجتمع
الإسلامي متعطّش لعلوم العِترة النبويّة المنبثقة عن علوم صفوة أنبياء الله ورُسله
الكرام، ولذا ركّز الإمام الصادق (عليه السلام) نشاطه، في مجال النُّصح والإرشاد،
من أجل توعية المجتمع ورفع مستواه العلمي، فدعا الناس إلى تطبيق مبادئ الإسلام
والتحلّي بقِيَمه السامية. كما وقف (عليه السلام) إزاء موجات الانحراف الفكري
والاجتماعي والسياسي التي اجتاحت الساحة الإسلاميّة، فعالجها بهدوء وتأنّي بعيداً
عن الانفعال. وكان (عليه السلام) يناظر كافّة المذاهب، لا سيّما الزنادقة؛ فيكشف
لهم الغطاء عن وجه الحقيقة، ويوضح لهم موقف الإسلام ويثبت أفضلية العقيدة الإسلامية
التي كان يعتنقها أشقّاء القرآن من رجالات العترة النبويّة الطاهرة[9].
ما سارت به الركبان؛
وحقّق النشاط العلميّ للإمام الصادق (عليه السلام) غاياته المتوخّاة، فالمسجد
النبويّ الشريف، ودار الإمام (عليه السلام) شهِدا طوال فترة إمامته انتشاراً كبيراً
لمـِا سمعه من آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونشاطاً فكريّاً من
الطراز الرفيع تحدّى الإمام من خلاله حظر السلطة، ودعا إلى العمل بالسنّة النبوية
الشريفة، واهتمّ بتدريس القرآن الكريم وتفسيره وحفظه وإكرام حملته، وشيّد قواعد
التوحيد الإلهيّ، وأجاب عن الشبهات الّتي كان يثيرها دعاة التشبيه والتجسيم، والجبر
والإرجاء، وجلس (عليه السلام) لإملاء الحديث النبوي على الحفاظ، وكان "كثير الحديث،
طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: ((قال رسول الله)) اخضر مرة، واصفر أخرى
حتى ليُنكره من لا يعرفه"[10].
وانطلاقاً من مجلسه المبارك في مسجد جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)"نقل
الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان"[11].
من روّاد جامعة الإمام الصادق؛
لم تقتصر حلقة الإمام القائمة في حرم جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على
أولاده الكرام؛ ولا على الطلاب من أهل المدينة المنوّرة؛ بل قد زخرت بطلّاب العِلم
من مختلف الأقطار "مثل الكوفة والبصرة وواسط، والحجاز وغيرها، ومن مختلف القبائل
مثل بني أسد، المخارق، طي، سليم، غطفان، الأزد، خزاعة، خثعم، بني ضبة، وقريش لا
سيما بنو الحارث بن عبد المطلب، وبنو الحسن الذين اتصلوا بتلك الجامعة"[12].
وقال أبو نعيم الأصبهاني:"وروى عنه عدّة من التابعين منهم يحيى بن سعيد الأنصاري،
وأيّوب السختياني، وأبان بن تغلب، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله ابن
الهاد، وحدّث عنه من الأئمّة والأعلام مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري،
وابن جريج، وعبد الله بن عمر، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال،
واسماعيل بن جعفر، وحاتم ابن اسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد،
وابراهيم بن طهمان في آخرين"[13].
قال "الحسن بن علي بن زياد الوشّاء -من تلامذة الإمام الرضا (عليه السلام)،
والمحدّثين الكبار- في سعة جامعة الإمام الصادق ورحابتها: أدركت في هذا المسجد ـ
الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمد[14].
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يشجّع ويعلّم ويرغّب تلاميذه في العلم الذي يتناسب
مع ذوقهم وطبيعتهم. وفي النهاية كان كلّ واحد منهم يتخصّص في مجال علميّ واحد أو
مجالَين مثل الحديث، التفسير، والأحكام، وعلم الكلام، وغيرها من علوم الدين
الإسلامي الحنيف، كذلك كان (عليه السلام) يُرشد بعض العلماء الذين يراجعونه للبحث
والمناظرة إلى المناظرة مع أحد طلابه الذين تخصّصوا في ذلك العلم[15]، وتلقّوه عن
الإمام في حلقته المعقودة وسط الحرم النبويّ الشريف[16].
معالم المنهج التربويّ الجعفريّ؛
صدرت الكثير من المؤلفات تحت عنوان المنهج التربوي عند أهل بيت الرحمة (عليهم
السلام)، وما من مُؤلّف أو مُصنّف منها إلّا وللإمام الصادق (عليه السلام) النصيب
الأوفر في هذا الشأن العظيم، فما من وصية أوصاها لأهل بيته أو أصحابه أو لعامّة
المسلمين إلّا وكانت كلّ جملة منها تبيّن المنهج التربوي في الإسلام بطريقة أوضح من
الشمس في رابعة النهار. وكيف لا يكون كذلك؛ ومعتمده الأوّل في منهاجه كتاب الله
المجيد الذي كان يتلوه "تلاوة كثيرة، ويتتبّع معانيه، ويستخرج من بحره جواهره،
ويستفتح عجائبه، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته
تذكّر الآخرة، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا، والاقتداء بهدايته يُورث الجنّة"[17]،
وهو القائل:"إنّا لا نعدل بكتاب الله عزّ وجل، وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله،
فإذا بعثنا ربّنا، أو وردنا على ربّنا؛ قلنا: يارب أخذنا بكتابك، وسنة نبيك صلى
الله عليه وآله، وقال الناس: رأينا رأينا، فصنع الله عزّ وجلّ بنا وبهم ماشاء"[18].
الناصح الأمين؛
لم يبخل الإمام الصادق (عليه السلام) بنصيحة على مسلم يوماً ما، وتعاليمه الخُلقية
لسفيان بن سعيد الثوري، والآخرين من رؤساء المذاهب بيّنةٌ واضحة، فقد حدث سفيان
الثوري، فقال: دخلت على جعفر بن محمد، وعليه جبة خز دكناء وكساء خز ايرجاني، فجعلت
أنظر اليه معجباً، فقال لي:"يا ثوري مالك تنظر إلينا لعلك تعجب ممّا رأيت" قال قلت
يا ابن رسول الله ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك، فقال لي:"يا ثوري كان ذلك
زماناً مقفراً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر اقفاره واقتاره، وهذا زمان قد أقبل؛
كلّ شيء فيه عزّ إليه"، ثمّ حسر عن ردن جبّته، وإذا تحتها جبّة صوف بيضاء يقصر
الذيل عن الذيل، والردن عن الردن، فقال لي:"يا ثوري؛ لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما
كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه"[19]
وقال إمام المالكية:"ولقد حججت معه سنة، فلمّا أتى الشجرة أحرَم، فكلّما أراد أن
يهلّ كاد يغشى عليه، فقلت له لابدّ لك من ذلك، وكان يكرمني وينبسط إلي، فقال:"يا
أبن أبي عامر إنّي أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول لا لبيك ولا سعدَيك" قال
مالك: ولقد أحرم جدّه علي ابن حسين، فلما أراد أن يقول اللهم لبيك، أو قالها غشى
عليه، وسقط من ناقته فهُشمَ وجهه"[20]
هذا أدبُ جعفر؛
من جملة ما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام صاحبه زيد الشحام:"اقرأ من ترى أنّه
يُطيعني منكم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ والورع في دينكم،
والاجتهاد للّه، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء
محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛
أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برَّاً أو فاجراً، فإنّ رسول اللّه (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم،
وعُودوا مرضاهم، وأدّوا حُقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدقَ الحديث
وأدَّى الأمانة وحسُنَ خُلقه مع الناس قيل : هذا جعفري، ويسرّني ذلك، ويُدخل عليّ
منه السرور، وقيل : هذا أدبُ جعفر، وإِذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه، وقيل
: هذا أدب جعفر، فواللّه لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه
السلام) فيكون زينها، أدَّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه
وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه، فتقول: من مثل فلان ؟ إِنّه آدّانا للأمانة،
وأصدقنا للحديث"[21].
وبذلك يوضح لهم المنهج الحقّ الذي يسير عليه أهل البيت (عليهم السلام)، ويجب أن
يسير عليه المسلمون ويلتزموا به، وهو منهج العلم والاعتقاد الحق، والعمل والتطبيق
لكل ما جاء به القرآن، وبلغه نبيّ الهدى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسار عليه
في حياته، و لنستمع له وهو يوضح هذه الحقيقة بقوله:"والله ما معنا من الله براءة،
وما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا يتقرّب إلى الله إلّا
بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً نفعته ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لم تنفعه ولايتنا"[22].
حرص الإمام الصادق (عليه السلام)؛
حرص الإمام الصادق (عليه السلام) على أن يحقّق المرء سعادته. فبالسعادة يصل الإنسان
إلى الكمال، وهذا ما يقود لسعادة الأمّة. هاتان الغايتان، أي السعادة والكمال، هما
مفهومان يدعو إليهما الدين الجامع، فلابدّ للإسلام أن يكون دين أخلاق، ولابدّ لقادة
الدعوة فيه من بثّ روح الأخلاق، وهذا ما كان يحرص عليه إمامنا الصادق (عليه السلام)،
فقد روى محمد بن حفص، عن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه
السلام)، والبيت غاص بأهله فيه الخراساني والشامي، ومن أهل الآفاق، فلم أجد موضعاً
أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) وكان متكئاً ثم قال:"يا شيعة آل محمد
اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة
من خالقه، ومرافقه من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه; يا شيعة آل محمد
اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله"[23].
وكان (عليه السلام) يوصيهم، فيقول:"كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، جرّوا
إلينا كلّ مودة، أحبّونا إلى الناس، ولا تبغّضونا إليهم؛ جرّوا إلينا كلّ مودّة،
وادفعوا عنّا كلّ قبيح، ما قيل فينا من خير، فنحن أهله، وما قيل فينا من شر، فوالله
ما نحن كذلك؛ لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وولادة طيبة[24]، فهكذا
قولوا"[25].
مكانك من أهل البيت عليهم السلام؛
من مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني قال: خرج
العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فبقيت على الباب متحيّراً، فإذا بجعفر بن محمّد،
فقمت إليه، فقلت: جعلني الله فداك؛ أنا مولاك الشقراني، فرحّب بي، وذكرت له حاجتي،
فنزل ودخل وخرج وعطائي في كمّه، فصبّه في كمّي، ثم قال:"يا شقراني، إِن الحَسَن من
كلّ أحد حَسَن، وأنه منك أحسن؛ لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح، وأنه منك
أقبح؛ لمكانك منّا".
قال الزمخشري: وإِنما قال له ذلك؛ لأنّ الشقراني كان يصيب من الشراب، فانظر كيف
أحسن استنجاز طلبته، وكيف رحّب به وأكرمه مع اطّلاعه على حاله، وكيف وعظه على جهة
التعريض، وما هو إلّا من أخلاق الأنبياء"[26].
الفقهاء أمناء الرُّسل؛
اشتدّ حسدُ المنصور العباسي، لتفوّق شخصية الامام (عليه السلام)، وعلوّ منزلته في
النفـوس، وذيوع اسمه في الآفاق، وشموخ مكانته العلمية، حتّى غطّت شخصيّته كلّ
الشخصيّات العلمية والسياسية في عصره، لذلك عمد أبو جعفر المنصور إلى استدعاء
الامام الصّادق (عليه السلام) وجلبه من المدينة إلى العراق مرّات، ليحقِّق معه،
ويتأكّد من عدم قيادته لحركات سرّية ضدّ الحكم العباسي، لأن أبا جعفر المنصور كان
يعرف اتّجاه الاُمّة وميلها للامام الصّادق (عليه السلام)، ويعرف أهليته وقوّة
شخصيته، وكانت مواقف الإمام الصادق (عليه السلام) بخصوص الوضع السياسي الذي فرضه
ولاة الجور كلّها تشير إلى عدم مشروعيّتهم، إذ لم يعرف عنه أبداً أيّ دعم أو تقرّب
منه للحكام الظلمة وأعوانهم، فأعطى بذلك نهجاً مشرقاً لتسير عليه الأجيال، ففي إحدى
المرّات أجاب (عليه السلام) المنصور الدوانيقي بأسلوب مُفحِم! عندما سأله المنصور ـ
وكان الذباب يتطاير، ويحطّ على وجهه، وقد ضجر منه، فقال: "يا أبا عبد الله لم خلق
الله الذباب؟ فقال الصادق(عليه السلام): ليذل به الجبابرة"[27].
وكتب إليه المنصور مرّة: "لم
لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه الصادق (عليه السلام): ليس لنا ما نخافك
من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا نراها
نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك؟! فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه(عليه
السلام): من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك"[28].
ومن هنا يتوضح لنا بعضاً مما أراده الإمام (عليه السلام) بقوله: "الْفُقَهَاءُ
أُمَنَاءُ الرُّسُلِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْفُقَهَاءَ قَدْ رَكِبُوا إِلَى
السَّلَاطِينِ فَاتَّهِمُوهُمْ"[29].
تصميم الطاغية على قتل الإمام الصادق؛
إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يتزلّف للسلاطين، يوماً، ولم يُهادنهم؛ رغم
قسوتهم وشدّة وطئتهم، ولذلك كان يقابل منهم بالحملات الظالمة، والهجمات العنيفة،
وقد حدث السيد الحسين بن زيد الشهيد، عن استاذه الإمام الصادق عليه السلام قال:"لما
رفعت إلى المنصور انتهرني، فكلّمني كلاماً غليظاً، ثم قال لي: يا جعفر، قد علمت ما
فعل بنا محمد بن عبد الله الذي تسمّونه النفس الزكية وما نزل به،"وَإِنَّمَا
أَنْتَظِرُ الْآنَ أَنْ يَتَحَرَّكَ مِنْكُمْ وَاحِدٌ، فَأَلْحِق الْكَبِيرَ
بِالصَّغِيرِ"[30].
وكان الربيع بن يونس وزيراً للمنصور العباسي، وقد اعترف أنّه لم يكن يشكّ في أنّه
يريد قتل الإمام الصادق (عليه السلام) والتخلُّص منه"[31].
وقال النسابة الشهير جمال الدين ابن عنبة:"وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مراراً،
فعصمه الله منه"[32].
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)؛
لم يزل الامام الصادق عليه السلام قائداً لمسيرة الأمّة الاسلامية، نحو الهداية
والفضيلة، حتى اغتاله طاغية عصره رمز التجبر والحقد المنصور الدوانيقي بالسم
بالمدينة المنورة في الخامس والعشرين من شهر شوال سنة 148 ه، ودُفن بالبقيع مع
أبيه الإمام الباقر والإمامين السّجاد زين العابدين، والمجتبى الحسن بن علي عليهم
السلام، فبموته خسِرت الإنسانية أعظم عالم ومفكّر إسلامي معصوم، بقِيَ التراث
الاسلامي مديناً له ولأفكاره ولآرائه العلمية الخالدة. فسلام الله عليك يا مولاي
يوم ولدت، ويوم التحقت بالرفيق الأعلى، ويوم تبُعث حيّاً؛ هذا وصلى الله على خير
خلقه المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[1] سورة النساء، الآية 54.
[2] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حِلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج3،
ص193، طبعة 4، دار الكتاب العربي، بيروت.
[3] كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد بن الحسن القرشي العدوي النيصيبي الشافعي،
مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، ص283، الباب السادس، طبعة مؤسسة البلاغ، إشراف
السيد عبد العزيز الطباطبائي.
[4] سورة القصص، الآية 5.
[5] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص306، طبعة 4، دار
الكتب الإسلامية، طهران.
[6] شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، ج9، ص89- 90، طبعة 2، دار الكتاب العربي،
بيروت.
[7] الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي،
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ج2، ص67، طبعة وزارة عموم الأوقاف
والشؤون الإسلامية، المغرب.
[8] الحافظ محمد بن علي ابن شهرآشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب،ج4، ص248، باب
إمامة أبي عبد الله جعفر الصادق، في علمه (عليه السلام)، طبعة 1، علامة، قم.
[9] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):"إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن
تضلّوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض،
وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"
يراجع الجامع الصحيح سنن الترمذي، ج5، ص663، ح3788، باب 32، من طبعة دار إحياء
التراث العربي، بيروت.
[10] رشيد الدين ابن شهرآشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص275.
[11] أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة، ج2، ص586، طبعة 1،
مؤسسة الرسالة، بيروت.
[12] الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج1، ص38.
[13] أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج3، ص198-199.
[14] أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي، ص40-41، ترجمة 80، طبعة 6، مؤسسة النشر
الإسلامي، قم.
[15] الكليني، الكافي، ج1، ص173.
[16] محمد بن عمر الكشي، رجال الكشي، ج2، ص555-557.
[17] كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، ص283،
الباب السادس.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص293.
[19] أبو نعيم، حلية الأولياء، ج3، ص193.
[20] ابن عبد البر القرطبي، التمهيد، ج2، ص67.
[21] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص636، باب ما يجب من المعاشرة.
[22] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص75-76.
[23] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص637.
[24] يعني بذلك شرف الانتساب إلى النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق
البضعة النبوية فاطمة الزهراء (عليها السلام).
[25] أبو جعفر عماد الدين محمد بن القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى، ص222، طبعة
2، المكتبة الحيدرية، النجف.
[26] جار الله الزمخشري محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي، ربيع الأبرار،
ج3، ص92، طبعة1، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
[27] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، علل الشرائع، ج2، ص496، طبعة 1،
مكتبة داوري، قم، وأبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج3، ص198.
[28] محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، التذكرة الحمدونية، ج1، ص113، طبعة 1،
دار صادر، بيروت.
[29] أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج3، ص194.
[30] القاضي محيي الدين محمد بن أحمد القرشي العبشمي، ترتيب الأمالي الخميسية
للشجري، ج3، ص175، طبعة 1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[31] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج6، ص266، طبعة 3، مؤسسة الرسالة.
[32] أحمد بن علي بن الحسين الحسني الحسيني"ابن عنبة"، عمدة الطالب في أنساب آل أبي
طالب، ص195 .