الهدف: التعرّف على مبادئ ثقافة البذل والعطاء
في القرآن الكريم، وسيرة الهُداة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
محاوِر الخِطبة
1- مطلع الخطبة.
2- البذل والإنفاق من وسائل إعمار الكون.
3- كلّ نفيس وجليل.
4- مِن صفات أهل الإيمان.
5- لا يُخلف الله وعده.
6- لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
7- سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
8- أوّل الباذلين المنفقين في الإسلام.
9- دعوة إمام الباذلين.
مطلَع الخِطبة
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى السلام على خاتم النبيّين وأشرف الخلق
أجمعين سيّدنا ومولانا رسول الله أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين
الطاهرين، وبعد؛
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ
قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا
مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[1].
وحدّث قدوة الأنام، وصفوة السادة القادة الكرام مولانا رسول الله محمّد صلّى الله
عليه وآله وسلّم عن ربِّه تبارَك وتعالى أنه قال:"حَقَّتْ مَحبَّتي على المتحابِّين
فيَّ، وحَقَّتْ مَحبَّتي على المُتَناصِحينَ فيَّ، وحَقَّتْ مَحبَّتي على
المُتَباذِلينَ فيَّ، هُمْ على مَنابِرَ مِنْ نورٍ، يَغْبِطُهُم النَّبيُّونَ
والشُّهداءُ والصِّديقُونَ"[2].
البذل والإنفاق من وسائل إعمار الكون
أيّها المؤمنون الكرام؛ لقد كرّم الله عَزَّتْ آلاَؤُهُ الإنسان منتهى التكريم،
ورفع منزلتَه ومكانتَهُ على مكانة ومنزلة سائر خلقه، وجعله خليفة له في الأرض،
وسخّر له ما في السموات والأرض وما بينهما، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾[3]، وبمقتضى العهد الذي أخذه الإنسان على نفسه بعد أن عرضه الله
على الخلق ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾[4].
عهد الخالق لهذا المخلوق بالذات أن يقوم بأمانة الاستخلاف وعمران الأرض، ولأنّ ﴿الدِّينَ
عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾[5]، فإنّ للإسلام نظرة
إلى المال ذات طبيعة خاصّة حيث تراه وسيلة من وسائل الإعمار والاستخلاف، وله وظيفة
اجتماعية، يجب أن ينتفع به المجتمع، وأن تستفيد منه الكائنات الموجودة، حتى يتحقّق
التكافل، وفضل الإنفاق في الإسلام لا يخفى على ذي لبٍّ, وخاصّة إذا كان ما ينفق
مبذولاً خالصاً لله تعالى ورغبة فيما عنده جلّ شأنه؛ والعاقل يستفيد ممّا أنعم الله
به عليه من المال في التقديم لنفسه من الخير حتى يجده عند الله تعالى، ولذلك تراه
في الدنيا مُسارعاً لامتثال أمر مولاه عزّ وجلّ القائل في مُحكَم كتابه: ﴿وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[6]،
ومتابعة لما تضمّنته هذه الآية المباركة من دعوة للاستفادة من الخيرات المذكورة
فيها روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "إنّكم إلى إنفاق ما
اكتسبتم أحوج منكم إلى اكتساب ما تجمعون"[7]. وقال عليه السلام: "بادروا بأموالكم
قبل حلول آجالكم تزككم، وتصلحكم وتزلفكم"[8].
كلّ نفيس وجليل يوصف بالكرم
أيها المؤمنون الكرام؛ إنّ كلّ نفيس وجليل يوصف بالكرم، وقد قال الله سبحانه وتعالى
في وصف كتابه المجيد: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾[9]، وفي وصف مولانا خاتم
الأنبياء صلّى عليه وآله وسلّم: ﴿وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾[10]، ولعلّ أصل
المحاسن كلّها هو الكرم، لأنّ أصل الكرم نزاهة النفس وسخاؤها بما تملك، والكرم
وسيلته البذل، وخير البذل ما كان في سبيل الله تعالى، وإنّ أحمد جود المرء البذل في
وجوه البر، ومعلوم لدى أهل الإيمان أنّ الله يُحبّ الإنفاق ولا يُحبّ الإقتار، لذلك
حثّ المؤمنين على الإنفاق ليكونوا قائمين بحقوق ذوي الاستحقاق؛ وقال في فرقانه
الحكيم:﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[11].
والبذل أيّها الكرام؛ منظومة جامعة لكلّ معاني العطاء والإنفاق والإيثار بدءاً ببذل
النفس ومروراً ببذل المال، والعلم والجهد والوقت، وهذه المنظومة إذا سُخّرت في سبيل
الله تعالى ستكون مانعة لكلّ أصناف الشحّ والبخل، والمنّ والتواكل، والعبد إذا
تخلّص من هذه الأفكار السلبيّة وآليّاتها لن يرى لنفسه فيما خوّله الله ملكاً،
فيهون عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن يُنفق فيه.
مِن صفات أهل الإيمان
كثيراً ما اقترنت في القرآن الكريم قضيّة البذل والإنفاق بشهادة الله بالإيمان
للباذلين والمنفقين، وظهر من خلال آيُ الذكر الحكيم أنّ البذل والإنفاق صفتان من
صفات المؤمنين، وفي ذلك يقول الله عَزَّتْ آلاَؤُهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ﴾[12].
يُضاف إلى ذلك العديد من الآثار المعنويّة والخلع السَنيَّة التي يخلعها الله تعالى
على الباذلين في سبيله، فالباذل المنفق في سبيل الله تعالى تجده أشرح الناس صدراً،
وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، وأحسنهم خلْقاً، وللبذل والإنفاق تأثير عجيب في ذهاب
همّه وغمّه، وأمّا البخيل المـُمسك فإنّه أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأكسفهم
بالاً، وأتعبهم قلباً، فكم عذّب نفسه بسبب البخل، وسجن قلبه في عبوديّته للمال، فما
أعظم همّه وغمّه، ويا لحسرته إذا كان ممّن يشملهم مضمون ما روي عن النبيّ صلّى الله
عليه وآله وسلّم :"من منع ماله من الأخيار اختياراً صرف الله ماله إلى الأشرار
اضطراراً"[13].
ويا لخيبته إذا كان ممّن ينطبق عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام):"من جمع له مع
الحرص على الدنيا البخل بها، فقد استمسك بعمودي اللؤم"[14].
لا يُخلف الله وعده
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا
تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[15]، وإنّ المتأمّل لآخر هذه الآية
المباركة يعلم أنّ الله تعالى لا يشجّع الناس على الإنفاق فقط، بل يُبشّر الباذلين
المنفقين بأنّ كلّ ما يبذلونه وينفقونه في سبيل الله سوف يُرَدّ إليهم، ويقول
عَزَّتْ آلاَؤُهُ في آية ثانية: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[16]، فهذا الوعد الإلهي يبعث الأمل
في نفوس المؤمنين، ويدفعهم إلى الإنفاق في سبيل الله بطمأنينة, لأنّ هذه المعاملة
هي مع الله، وما تبذلوا من مال وغيره في سبيل الله قليلاً كان أو كثيراً يخلفه الله
عليكم في الدنيا, ويدّخر لكم ثوابه إلى يوم القيامة, وأنتم لا تُنْقصون من أجر ذلك
شيئاً، وفي هذا الشأن العظيم قال الإمام الموصوف بِبَسْط الكفّ؛ والذي ما أعرض يوماً
عن بذل المعروف ولا كفّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):"أنفقوا ممّا رزقكم
الله عزّ وجلّ، فإنّ المنفق بمنزلة المجاهد في سبيل الله، فمن أيقن بالخلف جاد وسخت
نفسه بالنفقة"[17].
وممّا يروى في هذا الشأن أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)
عن قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ﴾[18]، وقال: إنّي أُنفق فلا أرى خلفاً، فقال له الإمام (عليه السلام):
"أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فممّ؟ قال: لا أدري، قال (عليه السلام): "لكنّي
أُخبرك إن شاء اللله تعالى؛ أما إنّكم لو كسبتم المال من حلّه، ثم أنفقتموه في حقّه؛
لم ينفق رجل درهماً إلّا أخلف الله عليه"[19].
لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون
معاشر أهل الإيمان؛ لقد مدَحَ الله سبحانه إمام الباذلين علي (عليه السلام)[20]،
فقال:﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[21].
والعباد الذين سلكوا مسلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وتحقّقوا بهذه الصفة من
صفاته، فإنّ أموالهم مخلوفة وأجورهم مكتوبة ودرجاتهم مرفوعة وكروبهم مفروجة، لا همٌّ
عليهم ولا غم، آمنون إذا خاف الناس، فرحون إذا حزن الناس، وقد قال الله عَزَّتْ
آلاَؤُهُ فيهم:﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا
يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[22].
وبما أنّ الحديث وصل لذكر قطرة من بذل وعطاء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)،
فلا بأس أن نروي لكم هذه القصة المفيدة، ومفادها أنّ أعرابيّاً جاء إلى الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام، وقال له: يا أمير المؤمنين إنّي مأخوذ بثلاث علل؛ علّة النفس،
وعلّة الفقر، وعلّة الجهل، فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام، وقال:"يا أخا العرب:
علّة النفس تُعرض على الطبيب، وعلّة الجهل تعرض على العالم، وعلّة الفقر تعرض على
الكريم، فقال الأعرابي: أنت الكريم، وأنت العالم، وأنت الطبيب، فأمر أمير المؤمنين
(عليه السلام) بأن يُعطى له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم، وقال: تنفق الفاً بعلة
النفس، والفاً بعلة الجهل، والفاً بعلة الفقر"[23].
ومن المعلوم أنّ بنود وصيته الخالدة لولده الإمام أبي محمد الحسن عليه السلام قد
تضمّنت قوله أرواحنا له الفداء: إنّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق في حقّ،
ولا تكن خازناً لغيرك.
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
معشَر المؤمنين؛ يحذّرنا الربّ تبارك وتعالى من الاستهزاء بالباذلين، وينهانا عن
السخرية بمن لا يجد إلّا جهده فيبذله في سبيل الله، وفي خدمة من يخدم دين الله،
فيقول الله عَزَّتْ آلاَؤُهُ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[24]،
واعلموا أيّها الأحبّة أنّ في هؤلاء، ومن هم على شاكلتهم أنشأ الإمام الحُسين عليه
السلام قائلاً:
كَــــفـــى بِـالــمَـــرءِ عــــــــاراً أَن تَـــــــراهُ .... مِنَ الشَأنِ
الرَفيعِ إِلى اِنحِطاطِ
عَلى المَذمومِ مِن فِعلٍ حَريصاً..... عَلى الخَيراتِ مُنقَطِعَ
النـــشــــاطِ[25]
فلا تلتفتوا لقُطّاع الطرق هؤلاء، ولا لأمثالهم من البطالين، وليكن لكم من تدبُّر
كتاب الله خيرَ عُدَّةٍ تعتدُّونها، وأقوى باعثٍ على العمل بما يُحبُّه ربُّكم
ويرضاه. واعلموا أنّ أمامنا أبي جعفر الباقر عليه السلام قد قال: قال أمير المؤمنين
عليه السلام:"شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في
إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا،
سلم لمن خالطوا"[26].
أوّل الباذلين المُنفقين في الإسلام
لقد كان أوّل مال أنفق في سبيل الله تعالى؛ مال السيّدة الطاهرة التي فاقت نساء
العالمين في الخيرات والمـُكرمات؛ مولاتنا أمّ المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام)،
فكما سبقت نساء الأمة إلى الإيمان بالله ورسوله وسَنَّتْ اللحاق بركب الإيمان لكلّ
امرأة آمنت بعدها، كذلك ومن خلال أوّليتها في البذل والعطاء ابتغاء وجه الله تعالى،
فقد سَنَّتْ هذه السنة الحسنة لكلّ من أنفق ماله بعدها في هذا السبيل، فيكون لها
مثل أجرهم جميعاً لقول خاتم النبيّين (ص): "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها
وأجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيئاً"[27]، وإذا كان العديد من الصحابة
قد شاركها في بعض هذه الأعمال فيما بعد، إلّا أنّ الأمر لا يستوي، لأنّ أمّنا
الغرّاء خديجة (عليها السلام) قد فعلَت ذلك في وقت عزّ فيه الصاحب والنصير؛ حيث
كانت أموالها المصدر الأساس لدعم النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورفد دعوته
بالمال اللازم لتغطية نفقات المستضعفين، وقد قال عبيد الله بن أبي رافع لما سُئل:
أو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال: إنّي سألت
أبي عمّا سألتني، وكان يحدث لي هذا الحديث، فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجة (عليها
السلام)؟ قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: [ما نفعني مالٌ قطّ
مثل ما نفعني مال خديجة]، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفكّ في
مالها الغارم والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان
بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة "[28].
ومن المعلوم أنّ الطاهرة الغرّاء (عليها السلام) كانت على نُبلها وسناء شرفها ذات
متاجر واسعة ينتقل بها عمّالها بين الحجاز والشام، و"كانت قريش إذا رحلت عيرها في
الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف كانت طائفة من العير لخديجة (عليها السلام)
"[29]، وفي بعض الأحيان كانت قافلتها منفردة تَعدِل قوافل قريش بأجمعها[30]، وكانت
أكثر قريش مالاً، وقد جعلت مالها كلّه في خدمة مولانا رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم)، ومن المعروف أنّ نُصرة أمّ المؤمنين خديجة لرسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) هي نُصرة لدين الله تعالى، فلا يمكن النظر لرسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) بشكل منفصل عن وجوده الرسالي، وأنّ من ينفعه لا ينفع الدين الذي جاء به؛
يدلّ على ذلك قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :"وواستني بمالها إذ حرمني الناس"[31]،
فلم يحرمه أولئك الناس مالهم إلّا لكونه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد صدَع
بالرسالة والدعوة لتوحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام التي كانوا عاكفين عليها[32]...،
وأمّ المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام) كانت تضحياتها في هذه المدّة بالنفس
والمال أعظم من كلّ الموحّدين، ونصرتها لرسول الله أَجدى وأَنفع، وإذا كان الله
تعالى يقول: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُو﴾[33]،
فكيف يستطيع الوصف أن يؤدّي حقّ السيّدة التي لم ينقطع بذلها وإنفاقها على الرسالة
المحمديّة من أوّل نزول الوحي- وتتابع على امتداد أيّام الدعوة الحقّة- وإلى أن
لحِقت تلك الباذلة الكاملة بالرفيق الأعلى؟! مصحوبةً بقول الذي ما ينطق عن
الهوى:"خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد"[34]،
وبذلك صارت أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عديلةً للبتول الطاهرة مريم (عليهما السلام).
دعوة إمام الباذلين أرواحهم في كربلاء
إنّ من تتبّع السيرة العَطِرة لسيّد الشهداء، الإمام أبي عبد الله الحُسين (عليه
السلام)، يعلم عِلم اليقين أنّه لا يلحق بركب ريحانة المصطفى إلّا من وطّن نفسه على
التضحية في سبيل الله، وربّى ذاته على البذل والعطاء ابتغاء وجهه الكريم، ولذلك قال
سيّد الشهداء (عليه السلام):" لن تشذّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لحمته؛ هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز لهم وعده ؛ ألا ومن كان
باذلاً فينا مهجته؛ موطنّاً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا..."، وقال (عليه
السلام) فيما سلف من حياته الطيبة التي سبقت شهادته المباركة:"أَيهَا النَّاس:
نَافِسُوا فِي الْمَكَارِمِ، وَسَارِعُوا فِي الْمَغَانِمِ، وَلاَتَحْتَسِبُوا
بِمَعْرُوفٍ لَمْ تَعْجَلُوه؛ وَاكْسِبُوا الْحَمْدَ بِالنُّجْحِ، وَلاَ
تَكْتَسِبُوا بِالْمَطْلِ ذَمّاً؛ فَمَهْمَا يَكُنْ لأحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ صَنِيعَةٌ
لَهُ رَأَي أَنَّهُ لاَ يَقُومُ بِشُكْرِهَا، فَاللَهُ لَهُ بِمُكَافَأَتِهِ؛
فَإنَّهُ أَجْزَلُ عَطَاءً وَأَعْظَمُ أَجْراً.
وَاعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ النَّاسِ إلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اللَهِ عَلَيْكُمْ؛
فَلاَ تَمَلُّوا النِّعَمَ فَتَحُورَ نِقَماً.
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعْرُوفَ مُكْسِبٌ حَمْداً، وَمُعْقِبٌ أَجْراً ، فَلَوْ
رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ رَجُلاً رَأَيْتُمُوهُ حَسَناً جَمِيلاً يَسُرُّ
النَّاظِرِينَ؛ وَلَوْ رَأَيْتُمُ اللُؤْمَ رَأَيْتُمُوهُ سَمِجاً مُشَوَّهاً
تَنَفَّرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَغُضُّ دُونَهُ الاْبْصَارُ.
أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ جَادَ سَادَ، وَمَنْ بَخِلَ رَذِلَ، وَإنَّ أَجْوَدَ
النَّاسِ مَنْ أَعْطَي مَنْ لاَ يَرْجُوهُ؛ وَإنَّ أَعْفَي النَّاسِ مَنْ عَفَا عَنْ
قُدْرَةٍ؛ وَإنَّ أَوْصَلَ النَّاسِ مَنْ وَصَلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَالاْصُولُ عَلَي
مَغَارِسِهَا بِفُرُوعِهَا تَسْمُو؛ فَمَنْ تَعَجَّلَ لاِخِيهِ خَيْراً وَجَدَهُ
إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ غَداً.
وَمَنْ أَرَادَ اللَهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي بِالصَّنِيعَةِ إلَي أَخِيهِ كَافَأَهُ
بِهَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ، وَصَرَفَ عَنْهُ مِنْ بَلاَءِ الدُّنْيَا مَاهُوَ
أَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَنْ نَفَّسَ كُرْبَةَ مُؤْمِنٍ فَرَّجَ اللَهُ عَنْهُ كُرَبَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ أَحْسَنَ أَحْسَنَ اللَهُ إلَيْهِ، وَالله يحب
الْمُحْسِنِينَ"[35].
وفي الختام؛ نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه؛
وصلّى الله على خير خلقه النبيّ المصطفى محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
[1] سورة الحديد، الآيات 9-11.
[2] محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي، صحيح ابن حبان، ج2، ص338، طبعة:2، مؤسّسة
الرسالة، بيروت.
[3] سورة الجاثية، الآية 13.
[4] سورة الأحزاب، الآية 72.
[5] سورة آل عمران، الآية 19.
[6] سورة المزمل، الآية 20.
[7] عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودُرر الكلم،
ص268، طبعة: دار الكتاب الإسلامي، قم.
[8] الآمدي التميمي، غرر الحكم ودُرر الكَلِم، ص308.
[9] سورة المزمّل، الآية 20.
[10] سورة الدخّان، الآية 17.
[11] سورة الحديد، الآية 18.
[12] سورة الأنفال، الآيتان 2-4.
[13] العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج93، ص131، طبعة مؤسسة الوفاء،
بيروت.
[14] التميمي الآمدي، غرر الحكم، ص660، فصل: اللؤم واللئيم.
[15] سورة البقرة، الآية 272.
[16] سورة الأنفال، الآية 60.
[17] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج2، ص619، طبعة:1، جماعة
المدرسين، قم.
[18] سورة سبأ، الآية 39.
[19] السيد علي بن موسى "ابن طاووس"، فلاح السائل ونجاح المسائل، ص38-39، طبعة:1،
بستان الكتاب، قم.
[20] الآية من الآيات النازلة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد
كَانَ له أَرْبَعَةُ دَرَاهِمٍ، أَنْفَقَ دِرْهَمًا لَيْلاً وَدِرْهَمًا نَهَارًا،
وَدِرْهَمًا سِرًّا ودرهماً عَلانِيَةً، فَنَزَلَتْ الآية، يراجع ابن أبي حاتم عبد
الرحمن بن محمد التميمي الرازي، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، ج2، ص542، حديث
2882-2883، طبعة:3، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، وأبو الفداء اسماعيل بن عمر بن
كثير الدمشقي، تفسير ابن كثير، ج1، ص708، طبعة:2، دار طيبة للنشر والتوزيع.
[21] سورة البقرة، الآية 274.
[22] سورة البقرة، الآية 262.
[23] شمس الدين محمّد بن محمّد بن حيدر الشعيري، جامع الأخبار، ص138، الفصل السادس
والتسعون، طبعة:1، المطبعة الحيدرية، النجف.
[24] سورة التوبة، الآية 79.
[25] ديوان الإمام الحُسين عليه السلام، ص146.
[26] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج2، ص236-237، طبعة: 4، دار
الكتب الإسلامية، طهران.
[27] أحمد بن شعيب النسائي، السُنن الكبرى، ج5، ص75، طبعة: مكتب المطبوعات بحلب.
[28] الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس السادس عشر،
طبعة:1، دار الثقافة، قم.
[29] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس السادس عشر.
[30] أبو نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران
الأصبهاني، دلائل النبوّة، ج1، ص177-178، حديث 227، طبعة:1، دار طيبة، الرياض .
[31] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص117، حديث رقم 24908، طبعة: مؤسّسة قرطبة،
القاهرة، والطبراني، المعجم الكبير، ج23، ص13، باب: مناقب خديجة رضي الله عنها،
حديث رقم 22، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
[32] وقد رأيناهم كيف عرضوا الدنيا برمّتها على النبيّ (ص) مقابل التخلّي عن الدعوة
إلى الله، فما كان منه إلّا أن قال كلمته الفاصلة:"والله يا عم، لو وضعوا الشمس في
يميني، والقمر في يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه"، يراجع سيرة
ابن إسحاق، ج1، ص154، طبعة:1، دار الفكر، بيروت، وابن كثير، السيرة النبويّة، ج1،
ص474.
[33] سورة الحديد، الآية 10.
[34] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج6، ص394،
طبعة:1، مؤسّسة الرسالة، بيروت.
[35] أبو سعد منصور بن الحسين الآبي الرازي (المتوفى 421 ه)، نثر الدر في المحاضرات،
ج1، ص228، طبعة: دار الكتب العلمية، بيروت، ومحمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون،
بهاء الدين البغدادي، ج1، ص102، التذكرة الحمدونية، طبعة:1، دار صادر، بيروت.