مطلع الخطبة
قال الله تعالى في مُحكَم كِتابه: بسم الله الرحمن الرحيم: (فاتّقوا الله وأصلحوا
ذاتَ بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)[1].
أيّها الأحبّة
إنّ من عظَمَة الشرع الإسلاميّ الحنيف أنّه ما من سبيل يَزيد من تآلُف الناس فيما
بينهم ويؤدّي إلى ترابُطهم وتكاتُفهم إلّا وجاءَ به وجوباً أو استحباباً، وما من
سبيل يؤدّي إلى التفرقة والاختلاف، أو الضغينة والشحناء والبغضاء، إلّا حرّمه
وأوصَد طُرقه وسدّ سُبله، وقد عدّ الله تعالى ذاك التآلُف بين المؤمنين نِعمةً من
نِعَمِه_ عزّ وجلّ_، وأمَر بذِكْرها وتذكُّرها كما في قوله تعالى: (واذكروا نعمة
الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)[2].
وإذا ما أردنا ذِكْر الأحكام والإرشادات الواردة في القرآن الكريم والسنّة النبويّة
الشريفة الآمرة منها والناهية، والتي تدعو إلى التآلُف والوئام والمحبّة بين
المؤمنين، فإنّنا سنَجِدُ عدداً كبيراً منها، كالأمر بصِلة الرحم وإفشاء السلام
وإطعام الطعام والحبّ في الله والتزاوُر فيه وإجابة دعوة الداعي وتسميت العاطس
وعيادة المريض واتّباع الجنازة وقضاء حوائج الناس وخدمتهم، وغيرها الكثير من حقوق
الأهل والجيران وذَوِي القُربى.
وكذلك ما ورد في الوقت عينِه من النهي عن الهمز واللمز والسخرية والغيبة والنميمة
والقَذْف والبُهتان والشتم والسبّ والكذب والمراء والفجور والجدال وسوء الظنّ
بالآخرين، وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي تؤدّي إلى التفرقة والاختلاف ونشوء
الضغينة والأحقاد بين الناس.
وبجانب هذه الإرشادات يدعو الإسلام إلى الإصلاح بين الناس عند وقوع النزاعات فيما
بينهم، وربّما يكون هذا الأمر من أبرز الأعمال التي دعا إليها فأعظَم فضلَها
وثوابها، وخاصّة أنّ النزاعات بين الناس أمرٌ لا مفرَّ منه في كثير من الأحيان، ذلك
أنّ النفس البشريّة عُرضة للانزلاق والانحراف عن جادّة الصواب والتعقُّل في ما لو
لم تتحكّم بقِواها التي فُطِرت عليها، فإنّ في الإنسان قوىً نفسيّة ما إن يتهاون
فيها فإنّها تَحرِفه عن الحِلْم والتروّي في ردّات فعله، كالقوّة الشهوانيّة
والقوّة الوهميّة، والقوّة الغضبيّة.
نزاعات بأسباب واهية
وإنّه لمِن العجيب، كيف أنّ بعض الناس ينجرّون إلى الفتنة والتناحُر والتباغُض، بل
ربّما يصل الحال بهم إلى الاقتتال والاعتداء الجسديّ على بعضهم بعضاً، بأسباب واهية
لا مبرّر لها شرعاً ولا عقلاً ولا عُرْفاً، فنرى بعضهم يقتَتِلون من أجل رُكن سيارةٍ
هنا أو هناك!!، أو من أجل خلاف بين طفلين!! أو من أجل خطأ ما ارتكبه أحدهم بحقّ
الآخر في قيادة السيارة!!، حتّى تَجِد الحميّة عند هؤلاء تشتدّ في مثل هذه المواقف
وكأنّ دين الله قد أُهين، وشرْعُ الله قد هُتك.
وهذا في الواقع يرجع إلى كيفيّة تعامُل الناس في مثل هذه المواقف؛ فمنهم من يتسرّع
في ردّات فعله ولا ينظر إلى عواقبها ونتائجها، والأخطر من ذلك، حين لا يراعي الحدود
الشرعيّة التي تضع حدّاً لأيّ تصرّف يُقدِم عليه، ومنهم من ينظر في الأمر جيّداً
ويتعامل معه بروّية وتعقُّل وحِلْم، وهذا ما ينبغي على الإنسان أن يهذّب نفسه عليه.
ويُمكن القول بأنّ من أبرز الصفات الذميمة التي تدفع الإنسان إلى النزاع والتنافُر
مع الآخرين هي صفة الشحّ والبُخل، فإذا ما قرأنا مناشئ النزاعات تلك جيّداً، فإنّنا
نجد أنّ سبَبها الرئيس هو الحِرص على الدنيا ومتعلّقاتها. يقول الله تعالى في كتابه
العزيز: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)[3].
ولكن ما إنْ يقع النزاع فلا بدّ حينها من تقويضه والسيطرة عليه لئلّا يتفاقم أكثر
فأكثر، ومن هنا جاءت أهميّة الإصلاح بين الناس.
فضْل الإصلاح
اعلَموا أيّها الأحبّة أنّ التدخّل في الإصلاح بين الناس إنّما هو عمل
جبّار ومحبّب عند الله_ عزّ وجلّ_، وإنّه لمن المهمّات الأولى التي عمل عليها
الأنبياء والأولياء والصدّيقون عبر التاريخ البشريّ.
ويمكن لنا من خلال مطالعة الآيات القرآنية أن نستخلص بعض العناوين المتعلّقة
بالإصلاح وبيان فضله، منها:
1- اقتران الأُخوة بالصُلْح:
حيث قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[4].
2- الصُلْح خَيْر:
كما في قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)[5].
3- اقتران الصُلْح بالتقوى:
حيث قال _عزّ وجلّ_: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[6].
4- الأجْر في الإصلاح:
قال سبحانه: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[7].
5- الإصلاح مُناهض للمُفسدين:
قال _عزّ وجلّ_: ( وأصْلِح ولا تتبع سبيل المفسدين)[8].
6- نفي الخوف والحزن عن المصلحين:
كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[9].
7- الصُلْح وقاية من فشل الأمّة:
قال تعالى: ( ولا تنازعوا فتفشلوا ويذهب ريحكم)[10].
أمّا في الروايات فقد ورَد عن لسان المعصومين(عليهم السلام) العديد من الروايات
التي تحثُّ على الإصلاح بين الناس وتُبيّن فضلَه وعظمَته، فعن أمير المؤمنين(عليه
السلام) في وصيّته للإمام الحسن(عليه السلام) قال:" ثمّ إنّي أوصيك يا حسن وجميع
أهل بيتي وولْدي ومن بلَغه كتابي بتقوى الله ربّكم ولا تمُوتنّ إلّا وأنتم مسلمون ،
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا فإنّي سمِعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله
يقول : " صلاح ذات البَيْن أفضل من عامّة الصلاة والصيام"[11].
وعنه أيضاً (عليه السلام) أنه قال: " ثابروا على صلاح المؤمنين والمتّقين"[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "صدقة يحبّها الله، إصلاح بين الناس إذا
تفاسدوا وتقارُب إذا تباعدوا"[13].
وعنه (عليه السلام) أنّه قال لأحَد أصحابه: " إذا رأيت بين شيعتنا منازعة فافتدها
من مالي"[14] .
أشكالُ الإصلاح بين الناس
قد تتنوّع أشكال الإصلاح بتنوّع أشكال الخلافات والنزاعات التي تحصُل
بين الناس:
فمنها ما له علاقة في المشاكل الزوجيّة، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا خَبِيرًا)[15]
ومنها ما له علاقة بالوصايا والإرث، كما في قوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ
جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ)[16].
ومنها ما له علاقة باقتتال الطوائف والجماعات الداخليّة حيث يقول سبحانه وتعالى: (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)[17].
فإنّه في مثل هذه المواضع والمواقف لا بدّ من التدخّل لفضّ النزاعات والخلافات
حِفظاً للدّم والمال والعِرض والحقوق.
مراعاة شرع الله بالصُلْح
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ المـُصلِح، في بعض الأحيان، يُعدّ بمثابة
الحاكم، بمعنى أنّ أطراف النزاع عندما يضعونه حكَماً فيما بينهم فإنّهم يوكِلونَه
أن يحكُم بما يجده خيراً وحسناً، ولذلك؛ يقع على عاتقِه مَهمّة عظيمة، خاصّة في ما
يتعلّق بأحكام الله تعالى، بأن يحرُص، تمام الحرص، على التقيّد بأحكام الله _ عزّ
وجلّ_، وهذا مما يُتّصف به المؤمنون، كما في قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[18].
وفي الوقت عينه؛ نهى الله _عزّ وجلّ_ عن الحُكم بغير ما شرّعه سبحانه، كما في قوله:
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[19].
صفات المـُصلح:
ولابدّ من الإشارة أيضاً، إلى أنّ المـُصلِح بين الناس ينبغي أن يتّصف
بصفات معيّنة وأن يتقيّد ببعض الضوابط التي تُسهم في إنجاز مهمّته على الوجه
المطلوب.
ومن تلك الصفات:
1- أن يلتزِم التقوى في إصلاحه.
2- أن يكون مُخلِصاً لله في إقدامه على الإصلاح، لا أن يكون ذلك لمصلحة شخصيّة.
3- أن يكون لديه معرفة عامّة بالأحكام الشرعيّة.
4- أن يتحرّى العدل في إصلاحه بين الأطراف كي لا يقع في مغبّة الظُلْم.
5- أن يقطع الطريق على النمّامين الذين يستغلّون مثل هذه المواقف كي يوقعوا الفِتنة
بين الناس..
6- أن يلتزم الكتمان وعدم إفشاء أسرار أطراف النزاع والخِصام.
7- أن يكون حليماً، إذ أنّ أحد أطراف النزاع، في بعض الأحيان، سيُوجّه له كلاماً
جارحاً.
[1] سورة الأنفال، الآية 1.
[2] سورة آل عمران، الآية 103.
[3] سورة النساء، الآية128.
[4] سورة الحجرات، الآية10.
[5] سورة النساء، الآية 128.
[6] سورة الأنفال، الآية 1.
[7] سورة النساء، الآية 114.
[8] سورة الأعراف، الآية 142.
[9] سورة الأعراف، ص35.
[10] سورة الأنفال، الآية 46.
[11] الكليني، الكافي، ج7، ص51،
[12] الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، ص218.
[13] الكلينيّ، مصدر سابق، ج2، ح1، ص209.
[14] المصدر نفسه، ج2، ص209 ح3 .
[15] سورة النساء، ص35.
[16] سورة البقرة، الآية128.
[17] سورة الحجرات، الآية9.
[18] سورة النساء، الآية 65.
[19] سورة المائدة، الآية45.