محاور الخطبة:
- دلالات مبيت الإمام عليّ (ع) في فراش الرسول الأكرم (ص).
- هجرة الرسول الأكرم (ص) وأبعادها.
- نحن والهجرة.
- انتقال الإمام الرضا (ع) إلى خراسان وشهادته.
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
مطلع الخطبة:
قال الله -عزّ وجلّ- في محكم كتابه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[[1].
وقال -سبحانه-:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ
وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[[2].
مَبيتُ أمير المؤمنين(ع):
أيّها الأحبّة،
إنّ في مبيت أمير المؤمنين(ع) في فراش رسول الله(ص) أعظم التضحية والإباء، مِن رجلٍ
عاش منذ ريعان شبابه حياة الوفاء والولاء والتصديق برسول الله (ص) وبعثتِه المباركة.
فقد قام (عليه السلام) بالمبيت هذا إثر اتّفاق قريشٍ على إنهاء حركة النبيّ
الأكرم(ص)، بعد أنْ رأوا فيها اتّساعًا وقوّةً بشكلٍ متزايدٍ، واتّفقوا على أنْ
تشترك جميع القبائل في ذلك؛ كي يضيع الفاعل ولا يستطيع بنو هاشمٍ إذ ذاك المطالبة
بدمه(ص).
وقد ورد في بعض الأخبار أنّ جبرائيل نزل على رسول الله (ص)، وتلا علیه هذه الآية
المباركة: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ﴾[[3].
وقد نقل جبرائيل أمر الله لِنَبيِّه بأنْ يهجر مكّة؛ فأرسل الرسول الأكرم(ص) إثر
ذلك إلى الإمام عليٍّ(ع)، وقال له: "إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَوْحَى إِلَيَّ
أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي، وَأَنْ أَنْطَلِقَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ أُطَحِّلَ
لَيْلَتِي، وَإنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكَ بِالْمَبِيتِ عَلَى مَضْجَعِي، وَأَنْ
أُلْقِيَ عَلَيْكَ شَبَهِي. فَقَالَ عَلِيٌّ (ع): أَوَ تَسْلَمُ بِمَبِيتِي هُنَاكَ؟
فَقَالَ (ص): نَعَمْ، فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ ضَاحِكًا، وَأَهْوَى إِلَى الْأَرْضِ
سَاجِدًا؛ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا، وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ
وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ سَجْدَتِهِ. فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ لَهُ:
امْضِ لِمَا أُمِرْتَ، فِدَاكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِي! قَالَ:
فَارْقُدْ عَلَى فِرَاشِي، وَاشْتَمِلْ بُرْدَ الْحَضْرَمِيّ،ِ ثُمَّ إِنِّي
أُخْبِرُكَ -يَا عَلِيُّ- أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَمْتَحِنُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى
قَدْرِ إِيمَانِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ مِنْ دِينِهِ؛ فَأَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً
الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَقَدِ امْتَحَنَكَ، يَابْنَ أُمِّ،
وَامْتَحَنَنِي فِيكَ بِمِثْلِ مَا امْتَحَنَ بِهِ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ
وَالذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلَ؛ فَصَبْرًا صَبْرًا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ! ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ..."[4].
وبات الإمام عليٌّ مكان رسول الله، وجاء القرشيّون، وقد سلّوا سيوفَهم لقتله، وإذا
بهم يُفاجَؤون بأنّ في الفراش عليًّا (ع)، وصار بينه وبينهم نقاشٌ، قرّعهم فيه أميرُ
المؤمنين، حتّى هرعوا منه خائفين من قوّته وشجاعته.
هجرته (ص):
وكان النبيّ (ص) قد استطاع أن يخرج من داره دون ملاحظتهم لذلك، وهو يتلو قول الله -تعالى-:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾[[5].
وانطلق قاصدًا المدينة المنوّرة مهاجرًا إليها. وما إن وصل إليها بعد أيّام عدّة،
حتّى استقبله أهلُها بالتأهيل والترحاب. وبدأ، من هناك، حركته التبليغيّة الجديدة.
وكان ما قام به (صلّى الله عليه وآله):
أوّلًا: بناء المسجد
وهو أوّل صرحٍ دينيٍّ اعتنى النبيّ (ص) بإنشائه. وقد كان مركزًا للعبادة، والتعليم،
والحُكم، والإدارة، ومقرًّا لحكومته (صلّى الله عليه وآله).
ثانيًا: المؤاخاة
آخى بين المهاجرين والأنصار؛ وذلك من أجل تأكيد وحدة المسلمين. وقد خصّ مؤاخاته هو
(صلّى عليه وآله) بالإمام عليٍّ(ع).
ثالثًا: ميثاق السلام بين أهل المدينة
حيث عَقد، لقبائل المدينة، ميثاقًا، يتعّهّدون فيه عدمَ التناحر فيما بينهم؛ بهدف
استتباب الأمن فيها.
ثالثًا: إعداد القوّة العسكريّة
عمل على تقوية دعائم الدولة، من خلال تدريب الرجال والشباب، ودعمهم بالسلاح والخيل،
وتَهيِئَة المدينة عسكريًّا وتنظيمها.
الدروس والعِبر من المبيت والهجرة
فأمّا فيما يخصّ مبيتَ أمير المؤمنين (ع)، فيكفينا ذكرُ ما أنزله الله -تعالى- في
هذه الواقعة بحقّه (عليه السلام)، حيث قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[[6].
فقد باع أميرُ المؤمنين(ع) نفسَه، وهو يبتغي رضوانَ الله -تعالى-، حتّى ولو كلّفه
ذلك إزهاقَ روحه المباركة.
وإنّ هذا من أرفع معاني التضحية التي ينبغي للمؤمن أنْ يتحلّى بها، والتي يعمل بها
في أيّامنا هذه أولئك المجاهدون والشهداء، الذين يسقطون هنا وهناك دفاعًا عن أهليهم
وأرضهم، سواء أكان في مواجهة الصهاينة في فلسطين، أم في مواجهة التكفيريّين في
سوريا والعراق، أم في مواجهة قوى الاستكبار العالميّ، التي تدعم بعضَ الدول
المستبدّة، والتي تشنّ حربًا شعواء وظالمةً على المسلمين الأبرياء في اليَمَن
السعيد.
وقد سطّر شهداء المقاومة الإسلاميّة في لبنان قصائد المواجهات البطوليّة ضدّ
الاحتلال الصهيونيّ في جنوب لبنان، وضدّ التكفيريّين في البقاع اللبنانيّ، حتّى
دحروهم عن أرضه. وإنّ في بطولاتهم تلك دروسًا، على جميع شباب ورجال الأمّة
الإسلاميّة أنْ يأخذوا منها العبرةَ في مقارعة الظلم والطغيان والاحتلال.
إنّ في ذلك كلّه روحَ تضحيّة وسخاءٍ، تدفع هؤلاء المجاهدين أن يقدّموا أغلى ما
عندهم في سبيل مرضاة الله –سبحانه-.
أمّا هجرة الرسول الأكرم (ص)، فإنّ فيها الكثير من الدروس والعبر، منها:
1- إنّ النبيّ (ص) انتقل بهجرته من الدعوة الفرديّة للإسلام، إلى بناء المجتمع
الإسلاميّ المتكامل، الذي استطاع من خلاله أن ينشر دعوته إلى جهات العالم.
2- امتثاله (صلّى الله عليه وآله) أمْرَ الله -تعالى-بالخروج من مكّة، وهو درسٌ في
التسليم لأمره -عزّ وجلّ-.
3- علّمنا (صلّى الله عليه وآله) أنّ على الإنسان أن يعمل بالأسباب الظاهريّة
والمادّيّة؛ فنجده يتحرّك من بيته، وقد بات مكانه أميرُ المؤمنين، ثمّ أخفى شخصه
المبارك في الغار، وانتقل إلى المدينة بطرقٍ ووسائل أَمنيّةٍ...
4- علّمنا، بهجرته (صلّى الله عليه وآله)، درسًا عقائديًّا في الثقة بالله -تعالى-
وعنايته وتوفيقه، وبأنّه يَفِي بوعده الحقّ بانتصار دينه: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[[7].
5- في هجرتِه درسٌ في حبّ الوطن؛ فقد أظهر حبّه لمكّة، وقد دعا -كما في بعض
الأخبار- عند خروجه منها قائلًا: "اللهمَّ، أَخرجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ البقاع إليّ،
فأسْكِنِّي في أَحَبِّ البقاع إليك..."[8]
6- في الهجرة درسٌ في الصبر على البلاء والامتحان؛ فإنّ المسلمين المهاجرين قد
تركوا أملاكَهم وبيوتَهم وعشائرَهم وأرضَهم، فضحّوا بذلك كلّه، فقط من أجل مرضاة
الله -تعالى-، وهذا امتحانٌ كبير لقلب المؤمن بالله -سبحانه-، وتربيةٌ في التضحية
في سبيله.
7- في الهجرة تأكيدٌ على قيمة المسجد، وهو أوّل ما بناه رسول الله -كما مرّ
آنفًا-، والله يقول في محكم كتابه: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[.
نحن والهجرة:
وإنّنا نحن -أيضًا- مطالبون بالهجرة، والتي تعني الانتقالَ من بلد إلى آخر، بهدف
حفظ ديننا وإيماننا في قلوبنا، أو للهجرة بهدف نيل العلم ونشر الدين والمفاهيم
الإسلاميّة الأصيلة؛ فإنّ ذلك كلّه يمكن أن نضعه تحت مسمّى الهجرة، وقد ذكر الله
-تعالى- عددًا من الآيات القرآنيّة فيما يخصّ الهجرة في سبيله، منها:
قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُهاجِرْ في سَبيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَمًا
كَثيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمً﴾[[9].
وقوله-تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾[[10].
نماذج من الهجرة:
1- هجرة النبيّ موسى (ع) من مصر إلى مَدْيَن، ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا
تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ
السَّبِيل﴾[[11].
2- هجرة النبيّ إبراهيم (ع) مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من فلسطين إلى مكّة، وكان
نتيجتها بناء الكعبة المشرّفة ونشر التوحيد في الجزيرة العربيّة.
3- هجرة عدد من المسلمين من مكّة إلى الحبشة بقيادة جعفر الطيَّار، واللجوء إلى
بلادها بعد أنْ تعرّض المسلمون إلى الاضطهاد.
4- هجرة الإمام الحسين (ع) وأهل بيته من المدينة إلى مكّة، ومن ثَمَّ إلى العراق
وأرض كربلاء؛ للجهاد في سبيل الله، وطلب الإصلاح في أمّة جدّه المصطفى (ص).
5- هجرة أولاد أئمّة أهل البيت (ع) وذرّيّتهم والعلماء الصالحين من شيعتهم إلى
العراق وإيران، وكذلك إلى إفريقيا، وشبه القارّة الهنديّة، وبلاد القوقاز؛ وعلى يد
هؤلاء العلماء دخل الإسلام وانتشر في تلك البلاد والأقطار.
6- هجرة العلماء لطلب العلم، إلى قمّ، والنّجف، وغيرهما من مراكز العلم.
الإمام الرضا (ع):
وإنّنا نعزّي صاحبَ العصر والزمان، والمراجع العظام، والأمّةَ الإسلاميّة جمعاء
بشهادة غريب طوسٍ وأنيس النفوس، الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع)، الذي أجبره المأمون
العبّاسيّ على تناول العنب المسموم، أو العصير المسموم، حتّى وافته المنيّة شهيدًا
في اليوم الثّامن والعشرين من صفرٍ سنة 203 للهجرة.
فإنّه (عليه السلام)، كما آبائه الطاهرين (ع) وجدّه المصطفى (ص)، قد ضحّى في سبيل
الله، وفي سبيل رفع راية الإسلام أيّما تضحية، وهو الذي أُجبِر على الانتقال من
المدينة المنوّرة ليستوطن بلدًا غريبًا عنه في لغته وجغرافيّته، تاركًا مدينة جدّه
(ص) وموضع تدريسه وتعليمه؛ وذلك كلّه حفظًا لأمر الإسلام والخطّ المحمّديّ الأصيل.
ولكنّه (عليه السلام) لم يقف مكتوف اليد في وطنه الجديد، حتّى أصبح له مريدون؛
فتربّى على يديه ثلّةٌ من المؤمنين والصالحين والتلامذة، الذين استطاعوا تغييرَ
معالم تلك المنطقة، وإرساء علوم أهل البيت (ع) ونشرها في الآفاق.
[1]سورة الأنفال، الآية30.
[2]سورة البقرة، الآية 207.
[3]سورة الأنفال، الآية 30.
[4]ابن شهر آشوب، المناقب، ج1، ص158.
[5]سورة يس، الآية 9.
[6]سورة البقرة، الآية 207.
[7]سورة التوبة، الآية33 .
[8]الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج2، ص120.
[9]سورة النساء، الآية 100.
[10]سورة الأنفال، الآية 74.
[11]سورة القصص، الآيتان 21-22.