محاور الخطبة
- حكم الوصيّة.
- ما هو المقصود بالوصيّة؟
- لا تكن مُجحفًا في وصيّتك.
- الوصيّة باتّباع الحقّ والأخلاق الحسنة.
- بِمَ يوصي؟
- شروط الوصيّة.
- واجبات من ظهرت عليه أماراتُ الموت.
مطلع الخطبة
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
قال الله -تعالى- في محكم كتابه الكريم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[1].
وقال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ
آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾[2].
وعن الإمام أبي جعفرٍ الباقر (ع) أنّه قال: "الوصيّةُ حقٌّ، وقد أوصى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)؛ فينبغي للمسلم أن يُوصِي"[3].
وقد قيل في سببِ نزول هذه الآية المباركة:
إنّ رجلَين نصرانيَّين، وهما تميم بن أوسٍ وأخاه عُديّ بن زيدٍ، وكانا قد خرجا
إلى الشام للتجارة، ومعهما بديل بن أبي مريم، مولى عمرو بن العاص، وكان مسلمًا
مهاجرًا. فلمّا قَدِموا الشام، مرض بديلٌ، وليس معه غيرهما، فأوصى إليهما، وكتب فيه
ما معه، وطرحه في متاعه، ولم يخبرهما به، وأَمَرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات.
ففتّشا متاعه، فأخذا إناءً من فضّةٍ، فيه ثلاثمئة مثقالٍ، منقوشًا بالذهب، ودفعا
باقي المتاع إلى أهله، فأصاب أهلُ بديلٍ الصحيفة، فطالبوهما بالإناء، فجحدا.
فرفعوهما إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنزلت هذه الآية المباركة على
قلبه الشريف.
أيّها الأحبّة،
إنّ أدنى تأمّلٍ في الشريعة الإسلاميّة السمحاء، يؤكّد لنا كيف أنّها شملت على
كلّ ما يصبّ في مصلحة الإنسان وتنظيم حياته، بالتقارن مع حفظ آخرته ورضا الله -سبحانه
وتعالى-.
وقد أرشدت الشريعةُ الإسلاميّة إلى ضرورة الوصيّة التي تحفظُ الأموالَ والممتلكاتِ،
وتعطي الفرصةَ للإنسانِ أن يكونَ له الحقّ في التصرُّف ببعض مالِهِ بعد موتِه. وهذا
من الأمورِ الملفِتَة في هذه الشريعةِ التي تحفَظُ كرامةَ الإنسانِ ورأيَه، حتّى
بعدَ موتِه!
حكم الوصيّة
ليس منّا إلّا والموت يلاحقه، لا يدري في أيّ أرضٍ هو يموت، ولا في أيّ
حالٍ يكون عليها، وقد يكون في ذمّته مالٌ لأحدٍ، أو حقٌّ لم يُعِدهُ إليه.
يتركُ أهلَه وزوجتَه وأولادَه، صغارًا كانوا أم كبارًا.
يتركُ إخوتَه وأخواته.
يترك أصدقاء له قد عاشَ معهم دهرًا.
فحقيقٌ به أن يتركَ لمن له حقٌّ عليهِ وصيّةً يحفظ بها حقوقهم؛ ليلقى الله بريء
الذمّة، وقد قام بما عليه.
وحقيقٌ به أن يترك وصيّةً يوصِي بها أحبّاءه بكلمةٍ طيّبةٍ، في حفظ دينهم وأخلاقهم
وطريق الحقّ الذي أمر به ربّ العالَمين.
من هنا، تنشأ أهمّيّة الوصيّة، بل قد حكم الله بوجوبها على من ظهرت عليه أمارات
الموت، وجعل لها أجرًا عظيمًا على من كان في عنفوانه الكامل ونشاطه، فجعلها مستحبّةً
ومحببّةً إليه -سبحانه-.
ما هو المقصود بالوصيّة؟
الوصيّة، في اللغة، بمعنى "الوصل" و"العهد". وهذا يعني أنّ الوصيّة
تُحدِثُ وصلًا ما بين الميّتِ والموصَى له، ربّما يتجلّى في ذكرِ الموصَى له
للمُوصِي بعد موته، أو أنّه يصله بالأجرِ والثواب، فيما لو أوصَى بشيءٍ فيه قضاءٌ
لحوائجِ المساكين والمحتاجين وأمثال ذلك.
أمّا في اصطلاح الفقهاء، فهي تعني تمليكَ عينٍ -الوصيّة التمليكيّة- أو منفعةٍ
تبرّعًا، أو تسليطًا على تصرّفٍ ما -الوصيّة العهديّة- بعد موت الموصِي.
وإنّ هناك تشديدًا على أن يُحسن الإنسانُ وصيّته؛ أي أن يكون دقيقًا وواضحًا
ومُنصفًا فيها، وإلّا سبَّبَ ذلك الهرجَ والمرجَ بين الورثة وغيرهم. رُوِيَ عن
النبيّ (ص) أنّه قال: "مَنْ لَمْ يُحْسِنْ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَانَ
نَقْصًا فِي مُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ
يُوصِي الْمَيِّتُ؟ قَالَ: إِذَا حَضَرَتْهُ وَفَاتُهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ
إِلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ، الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي
دَارِ الدُّنْيَا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا
شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ،
وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْحِسَابَ حَقٌّ،
وَالْقَدَرَ وَالْمِيزَانَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدِّينَ كَمَا وَصَفْتَ، وَأَنَّ
الْإِسْلَامَ كَمَا شَرَعْتَ، وَأَنَّ الْقَوْلَ كَمَا حَدَّثْتَ، وَأَنَّ
الْقُرْآنَ كَمَا أَنْزَلْتَ، وَأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، جَزَى
اللَّهُ مُحَمَّدًا (ص) خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَحَيَّا اللَّهُ مُحَمَّدًا وَآلَ
مُحَمَّدٍ بِالسَّلَامِ! اللَّهُمَّ، يَا عُدَّتِي عِنْدَ كُرْبَتِي، وَيَا
صَاحِبِي عِنْدَ شِدَّتِي، وَيَا وَلِيَّ نِعْمَتِي، إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي، لَا
تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَدًا، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى
نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَقْرُبْ مِنَ الشَّرِّ وَأَبْعُدْ مِنَ الْخَيْرِ، فَآنِسْ
فِي الْقَبْرِ وَحْشَتِي، وَاجْعَلْ لِي عَهْدًا يَوْمَ أَلْقَاكَ مَنْشُورًا!"[4]
لا تكن مُجحِفًا في وصيّتك
في بعض الأحيان، قد يُجحف المرءُ، لسببٍ ما، في وصيّته، فيَحرم بعضَ
الوَرَثَةِ من حقّهم في التركة، وهذا ما يؤدّي إلى التنافُرِ والمخاصمةِ بين
الورَثةِ بعد حينٍ. ومن أجلِ ذلك، فإنّ الله -تعالى- قد دعا إلى الإصلاحِ بين
المُوصِي والمُوصَى لهم، قائلًا: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[5].
الوصيّة باتّباع الحقّ والأخلاق الحسنة
أيّها الأحبّة،
لا بدّ من التأكيد على أنّ هناك نوعًا آخر من الوصايا، وهي الوصايا التي يهدف منها
المُوصِي إلى وعظ مَن بعدَه، وحثّهم وتحفيزهم على اتّباع الحقّ والصراط المستقيم.
وهذا ما دَأَبَ عليه الأنبياءُ والأولياءُ والأوصياءُ، قبل ارتحالهم عن هذه الحياة
الدنيا. ومن ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
يَا بنيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَموتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ﴾[6].
وغيرها الكثير من وصايا النبيّ الأعظم (ص) والأئمّة الأطهار(ع)، وهي مذكورةٌ في
أمّهات الكتب، من كتب السير والأخلاق وغيرها.
بِمَ يُوصِي؟
يوصي الاِنسانُ بحاجته؛ كأن يوصي بالمحافظةِ على أولاده الصغار وعائلته، يُوصي بصلة
الرحم، يُوصِي بتسديد ديونه وأداء آماناته، يُوصِي بقضاء ما فاته من صلاةٍ وصيامٍ
وحجٍّ، يُوصِي بدفع خُمسِ أموالٍ لم يخمّسها سابقًا، أو زكاةٍ استحقّت عليه ولم
يُخرجها، يُوصِي بإطعام الفقراء، يُوصِي بالقيام بأعمالٍ خاصّةٍ له بعدَه، يُوصِي
بالتصدّق عنه، يُوصِي بالكثير ممّا فيه خيرٌ ونفعٌ وبركةٌ.
شروط الوصيّة
ما يُشتَرَطُ في الوصيّ:
- البلوغ.
- العقل.
- الاختيار.
- الرشد، فلا تصحّ وصيّة السفيه في أمواله، ولا الإنسان المُكْرَهِ، ولا الصبيّ
إلّا إذا بلغ عشرًا وكانت وصيّته في وجوه الخير والمعروف ولأرحامه وأقربائه.
- أن لا يكون المُوصِي مُقْدِمًا على موتِه عامِدًا بتناول سُمٍّ، أو إحداث جرحٍ
عميقٍ، أو ما شابه ذلك، ممّا يجعله عرضةً للموت. ففي هذه الحالة، لا تصحّ وصيّته في
مالِه، وتصحّ في غيره؛ من تجهيزه وما يتعلّق بشؤون القاصرين من أولاده مثلًا، ونحو
ذلك.
ويُسَمَّى الشخص الذي يختاره صاحب الوصيّة لتنفيذ وصيّته بــِ "الوَصِيّ"، الذي لا
يحقّ له أن يفوِّض أمر الوصيّة إلى غيره، بأن يعزل نفسه عن الوصاية ويجعلها له.
واجبات من ظهرت عليه أماراتُ الموت
1- وفاءُ ديونِه التي حان أجلُ الوفاء بها، وهو قادرٌ على الوفاء بها.
أمّا الديون التي لم يَحِنْ وقتُ وفائها، أو حلّ ولم يطالبه الديّان بها، أو لم
يكن قادرًا على وفائها، فتجب عليه الوصيّة بها، والاِشهادُ عليها، إذا لم تكن
معلومةً عند الناس.
2- إرجاعُ الأماناتِ إلى أهلها، أو إعلام أصحابِها بأمانتهم عنده، أو الإيصاء
بإرجاعها.
3- أداء الخمس والزكاة والمظالم فورًا، إن كان في ذمّته شيءٌ منها، وكان قادرًا
على أدائِها.
4- الوصيّة بالصلوات وأيام الصوم التي عليه، باتّخاذ أجيرٍ من مالِه ليصلّي
ويصوم نيابةً عنه، وإن لم يكن له مالٌ، واحتمل أن يقضيها عنه شخصٌ آخر، وجبت
الوصيّة حينذاك. وفي بعض الحالات، قد يكفي الإخبار عمّا فاته، كما لو كان له من
يطمئنّ بقضائه لِمَا فات عنه، كالولد الأكبر.
5- إخبار الورثة بما له من مالٍ عند غيرِه، أو مالٍ في مكانٍ خاصٍّ لا يعلمُه
غيره؛ لئلّا يضيع حقُّهم في ذلك بعد وفاته.
وإنّ عدم الإيصاء، يُسوِّغ للورَثةِ التصرّف بالتركة حسبَ التقسيم الشرعيّ للميراث؛
وبالتالي، يسقط حقّه في ما يُحبّ ويشاء.
والحمد لله ربّ العالَمين.
[1] سورة البقرة، الآية180.
[2] سورة المائدة، الآية106.
[3] الكافي، الكلينيّ، ج7، ص3.
[4] الكافي، الكلينيّ، ج7، ص2.
[5] سورة البقرة، الآية182.
[6] سورة البقرة، الآية132.