محاور الخطبة
- من هو لقمان الحكيم؟
- وصايا لقمان.
- الأسس التربويّة في وصايا لقمان.
- مسؤوليّة الآباء والأمّهات في تربية الأبناء.
مطلع الخطبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: {إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ
يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[1].
وقال -عزّ وجلّ-: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ
فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[2].
من هو لقمان الحكيم؟
أيّها الأحبّة،
كان لقمان، الذي عرّفَنا به القرآن الكريم وبعضُ الأحاديث الواردة عن المعصومين
(ع)، رجلًا صالحًا، وقد كان وليًّا من أولياء الله -تعالى-، حكيمًا وعابدًا لله حقّ
العبوديّة، وقد عُرِفَ بين أقرانه وأهله ومَن حوله جميعًا بالحكمة والموعظة الحسنة.
يُروَى عنه (ع) أنّه كان طويلَ الفكر والتأمّل، ينظر في الأمور بعمقٍ وحكمةٍ، لا
ينام في نهاره أبدًا، له في كلّ فعلٍ موعظةٌ يتّعظ بها لآخرته، حتّى أنّه كان يأتي
السلاطين والحكّام ليعتبرَ ويتفكّر، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من اعتبارٍ من هذه
الدنيا الفانية، ونظرٍ نافذٍ في أحوالها ومآلها.
وأعظم مَن تكلّم عن لقمان الحكيم هو الله -سبحانه وتعالى-، في كتابه المحكم، ضمن
سورةٍ مفردةٍ أسماها باسمه، تعظيمًا لشخصيّته، وإشارةً إلى مكانته عند الله -سبحانه-.
وصايا لقمان
وكان ممّا جاء في هذه السورة المباركة، وصاياه لابنه، وهو يعظُه فيها
كيف ينبغي أن تكون علاقتُه بخالقه، وكيف ينبغي أن تكون نظرتُه في الدنيا، وكيف
ينبغي أن تكون آدابُه التي سلك دربها في حياته.
ومن هذه الوصايا، يمكن لنا أن نكتشف عددًا من الأسس التربويّة، التي ينبغي لكلّ
امرئٍ أن يتّعظ منها، وأن يأخذها درسًا له، لنفسه ولغيره.
ولا بدّ من الإشارةِ هنا، إلى أنّ التربية لا تكون فقط بالإطعام والإكساء وتأمين
متطلّبات العيش المادّيّة، كما يُخيَّلُ إلى بعض الناس، بل إنّ التربية، في أساسها،
تبدأ بالعلقة الروحيّة والمعنويّة، تبدأ بالتناصح والإرشاد في كيفيّة الحفاظ على
القلب سالمًا.
الأسس التربويّة في وصايا لقمان
سوف نورد ها هنا، الوصايا التي أوصى بها (ع) ولدَه، وهي بمثابة الأسس
التربويّة التي ينبغي لكلّ والدٍ أن يُنبّه أبناءه عليها، وأن ينصحهم بها، وهي على
الشكل الآتي:
الوصيّة الأولى: عدم الشرك بالله
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
يَعِظُهُ يَبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ}.
نلاحظُ أنَّ في هذه الآية المباركة ثلاث نُقاط هامّة:
الأولى: تتعلّق بنفس جلوسِ الأبِ مع ولدِه، وخطابِه بالنصح معه والإرشاد، وهذا
ما نحن بأمسّ الحاجة إليه في هذه الأيام، حيث يتباعد أفراد الأسرة عن بعضهم بعضًا
أكثر فأكثر، ويلهو الآباء بأعمالهم، دون التنبّه لأهمّيّة الاقتراب من أبنائهم،
حتّى تُصاب العلاقة بينهم بالجفاء.
الثانية: خطابُ ولدِه بعبارة "يا بُنَيّ"، وهو في غاية الرقّة والحبّ، وقد
اتّخذ في ذلك موقع الأبوّة الحقيقيّة، التي ينبغي أن تُبنَى على أساس العاطفة
والقرب.
الثالثة: التوصية بعدم الشرك بالله، وهذا من أبلغ الوصايا وأعظمها؛ لأنّ
توحيد الله -تعالى- هو غاية العبادة، هو مبدؤها ومنتهاها، ومنه تنطلق حركة الإنسان
وإيمانه، وبه يؤمن بالقضاء والقدر والتوكّل والاطمئنان، إنّه أساس نظرة الإنسان
الواقعيّة في هذا الوجود.
الوصيّة الثانية: إقامة الصلاة
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ}
وأوصاه بالصلاة، التي تُعتَبر أساس العلاقة مع الله. ومن الملفت في هذه
الآية المباركة، أنّ الوصيّة لم تكن بأداءِ الصلاة فحسب، بل بإقامتها، وفرقٌ كبيرٌ
بينَ أدائِها وإسقاطِ الواجبِ عن المكلَّف، وبين إقامتِها؛ فإقامةُ الصلاة تعني أن
يؤدّيها العبد بخشوعٍ وتأمّلٍ وتوجّهٍ إلى الباري -عزّ وجلّ-، وكذلك أن تكون بإخلاصِ
النيّة دون أن يشوبها شيءٌ.
وقد ورد، في بعض الأحاديث، ضرورةُ تعليمِ الأطفال الصلاةَ، وتأديبِهم عليها إذا
بلغوا سبع سنين. عن رسول الله أنّه قال: "عَلِّمُوا أَوْلَادَكُم الصَّلَاةَ إِذَا
بَلَغُوا سَبْعًا"[3].
الوصيّة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ
الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور}.
فقد أوصاه بالأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وهو من الواجبات الشرعيّة ضمن الشروط
اللازمة. وكذلك يُعتَبر هذا الواجب من أبرز مصاديق الإصلاح في المجتمع. وقد أردف
لقمان الحكيم وصيَّتَه بالصبر؛ ذلك أنّ أداء هذا الواجب يستلزم، في أحيانٍ كثيرةٍ،
العداوةَ أو التذمّرَ من قِبَلِ الآخرين، ومن هنا، لا بدّ للآمر والناهي، أن يتحلّى
بالصبر والحِلم.
وقد ورد العديد من الروايات التي تتحدّث عن فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأهمّيّته، منها ما ورد عن الإمام الباقر (ع): "إنّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن
المنكرِ سبيلُ الأنبياءِ، ومنهاجُ الصلحاءِ، فريضةٌ عظيمةٌ، بها تُقَامُ الفرائضُ،
وتأمنُ المذاهبُ، وتحلّ المكاسبُ، وتُرَدّ المظالمُ، وتعمرُ الأرضُ، ويُنتَصَفُ من
الأعداءِ، ويستقيمُ الأمرُ؛ فأنكِرُوا بقلوبِكم، والفظوا بألسنتِكم، وصكّوا بها
جباهَهم، ولا تخافوا في الله لومةَ لائمٍ، فإن اتّعظوا وإلى الحقّ رجعوا، فلا سبيل
عليهم {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الذينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في
الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}"[4].
الوصيّة الرابعة: عدم التكبّر على الناس
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}.
فإنّ تصعير الخدّ -وهو صرفُ الوجهِ عن الناس- كنايةٌ عن التكبّر على
الناس، وهو من الصفات الذميمة.
عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ في السماءِ مَلَكَينِ موكلَينِ بِالعبادِ،
فَمَنْ تَواضَعَ للهِ، رَفَعَاه؛ وَمَنْ تَكَبَّرَ، وَضَعَاه"[5].
الوصيّة الخامسة: عدم التفاخر
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ
لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}.
وإنّ المشيَ بهذا الشكل، كنايةٌ عن التفاخرِ على الناس، والعجبِ بالنفس،
وإنّ ذلك آفةٌ خطيرةٌ، إذا ما أُصيبت به النفسُ البشريّة، فإنّها تهوي وتسقط، خاصّةً
أنّه لا جدوى من ذلك كلّه، فالإنسان، مهما علا شأنُه، فإنّه لن يستطيع الوصول إلى
المراتب العليا، وسوف يكون هناك مراتب أعلى وأعلى.
ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ المجنونَ المتبخترَ في مشيتِهِ، الناظرَ في
عطفيه، المحرّكَ جنبَيه بمنكبيه، فذلك المجنون"[6].
الوصيّة السادسة: أدبُ المشي
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}.
بأن لا يمشي بسرعةٍ، بل أن يكون بتروٍّ وهدوءٍ، وهذا من علامات الوقار والمروءة
للإنسان.
فعن الرسول الأكرم (ص) أنّه قال: "سُرعَةُ المشيِ يذهبُ بِبَهَاءِ المؤمنِ"[7].
الوصيّة السابعة: خفض الصوت
{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}.
وغضّ الصوت هو خفضُه وعدمُ رفعه، فإنّ ذلك منكرٌ ومذمومٌ بين الناس،
وإذا ما قامَ به المرءُ، فإنّه يُصبِحُ عُرضةً للهتكِ والتذمّرِ من قِبَلِ الآخرين.
وقد ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ اللهَ لا يحبُّ الفاحشَ المتفحّشَ، ولا
الصيّاحَ في الأسواقِ"[8].
مسؤوليّة الآباء والأمّهات في تربية الأبناء
إنّنا، وفي زمنٍ أصبح فيه تقليدُ الغرب -بغثّه وسمينه- دارجًا، ومنه
التفكّك الأسريّ، الذي يعاني منه الغربُ بشكلٍ كبيرٍ، حتّى إنّه يمكننا القول:
إنّهم تعدّوا مرحلة الخطورة، وصار من اللازم عندهم استئصالُ الأمراض التي تنتجها
المنهجيّة التربويّة، التي اعتُمِدَت في مجتمعاتهم، وخاصّةً في ما يتعلّق بالتربية
الأسريّة، التي أصبحت شبه معدومةٍ.
فإنّه، لذلك كلّه، ينبغي على الآباء والأمّهات في مجتمعاتنا، أن يتنبّهوا لخطورة
ذلك، وأن يحافظوا على ما أرساه دينُنا في كيفيّة العلاقة بين الوالدَين والأبناء،
والعكس.
وليست وصايا لقمان الحكيم إلّا نموذجًا رائدًا من النماذج التربويّة التي قدّمتها
الثقافة الإسلاميّة، والتي نهلت مبادئَها من وحي الله -تعالى-.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1] سورة لقمان، الآية 13.
[2] سورة لقمان، الآيات 16، 17، 18،19.
[3] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج 16، ص 441.
[4] الكافي، الكلينيّ، ج5، ص56.
[5] الكافي، الكلينيّ، ج2، ص122.
[6] بحار الأنوار، المجلسيّ، ج76، ص57.
[7] بحار الأنوار، المجلسيّ، ج74، ص139.
[8] البخاريّ، محمد، الأدب المفرد، ص74.