آفة
التجارة بالمخدِّرات
محاور الخطبة
- الإنسان خليفة الله
- الأمر بعمارة الأرض
- النهي عن الإفساد في الأرض
- آفة انتشار المخدِّرات
- حكم التجارة بالمخدِّرات
- حكم زراعة الحشيش والقنّب الهنديّ
مطلع الخطبة
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[1].
الإنسان خليفة الله
أيّها الأحبّة،
إنّ أحكام ومفاهيم الدين الإسلاميّ الحنيف، منظومة متكاملة، تصبّ في جميع مفرداتها،
في صالح عيش الإنسان، وحفظ نوعه الذي كرّمه الله -تعالى- وفضّله على باقي مخلوقاته.
وإنّ أعظم مهمّة أوكلها الله إلى الإنسان، وهي بنفسها تكريم وتعظيم لشأنه، أنّه -سبحانه-
قد جعله خليفةً له في هذه الأرض، حيث قال-عزّ وجلّ-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة}[2].
ومعنى كونه خليفةً، هو أنّه مسؤول عمّا استُخلِف عليه، ممّا خلقه الله -تعالى-،
وممّا أولاه الله له من نعم وعطايا في هذه الحياة الدنيا، بدءاً من نفسه وأقرانه
ونظرائه من بني البشر، وانتهاءًا بالطبيعة والموارد الطبيعيّة، من ماء ونباتات
وحيوانات، أنعمها عليه لتكون مسخّرةً له بين يديه، كما في قوله -تعالى-: {أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[3].
وقوله-عزّ وجلّ-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}[4] .
فمقتضى الخلافة تلك، هو أن يعمد إلى حفظ المستخلَف عليه من الضياع والفساد.
الأمر بعمارة الأرض
وإنّ الله -تعالى-، ولحكمته البالغة، لم يترك الإنسانَ دون إرشاد وتوجيه، وهو مع ما
أُعطيَ من مقدّرات ومؤهّلات ميّزته عن باقي مخلوقات الله -تعالى-، إلا أنّه يبقى
عرضةً للجهل وعرضةً لظلم نفسه، كما قال -سبحانه- في محكم كتابه واصفاً إيّاه بذلك:
بـ {إنه كان ظلومًا جهولاً}[5]؛ ولهذا فقد أرشده الله -تعالى- من خلال الأنبياء
والمرسلين، إلى ما في صلاحه، وشرّع له ما يستطيع من خلاله أن يسير على هدىً من ربّه،
فأوجب وأحلّ له ما يُصلح حياته، وحرّم عليه ما يُفسدها.
وإنّنا من خلال آيات القرآن الكريم، نكتشف عِظَم وأهمّيّة هذا الإرشاد الإلهيّ، من
خلال توجيهه في عمارة الأرض وتنميتها على جميع الأصعدة والمجالات، كما في قوله -تعالى-:
{...هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[6].
إذاً، الله -تعالى- يُرشدنا إلى عمارة الأرض، وعمارة الأرض تعني العمل، وبذل الجهد
في كلّ ما أُتيح للإنسان بين يديه من موارد طبيعيّة، من خلال الزراعة والتجارة
واحتراف المهن، والتي يستطيع من خلالها تأمين العيش الهانئ له، ويحفظ من خلال ذلك
نعم الله -سبحانه وتعالى-.
وهناك أحاديث عديدة، تشير إلى عظمة هذا المفهوم الإسلاميّ الرائد في الثقافة
الإسلاميّة تجاه عمارة الأرض، كما عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إن قامت الساعة وفي
يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"[7]، وورد عنه أنّه قال
(ص): "ما من مسلم يغرس غرساً، يأكل منه إنسان أو دابّة أو طير، إلّا أن يُكتب له
صدقة إلى يوم القيامة"[8]، وغيرها من الأحاديث.
النهي عن الإفساد في الأرض
ومن جهة ثانية، فإنّ الله -تعالى- وبموازاة أمره وإرشاده بعمارة الأرض وحفظها من
الضياع، فقد نهى -عزّ وجلّ- الإنسان عن الإفساد فيها، والتعدّي على موجوداتها، حيث
قال -سبحانه-: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ
خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[9].
وقال أيضًا -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[10].
والإفساد، بالإضافة إلى اشتماله على المحرّمات والذنوب، فإنّه يشمل كلّ ما "يسلب
الأمنَ العام في الأموال والأعراض والنفوس، كقطع الطرق ونهب الأموال وهتك الأعراض
وقتل النفوس المحترمة"[11].
آفة انتشار المخدِّرات
ومن هذا المنطلق، نودّ الحديث عن آفة، تُعتبر من أخطر الآفات الاجتماعيّة التي
تواجهها مجتمعاتنا في هذه الأيّام، ألا وهي آفة انتشار المخدِّرات.
أيّها الأحبّة،
إنّ هناك إحصاءات عديدة، تشير وتنذر بخطر عظيم، إلى النسب المتزايدة من المدمنين
على المخدّرات، أكانوا ذكوراً أم إناثًا، صغارًا أم كبارًا! بل بدأت تنتشر في أروقة
المدارس والجامعات، بين الطلبة والتلامذة. وتجّار الموت وعديمو الإنسانيّة يُعيثون
فساداً بأخلاق هؤلاء، ودمارًا لمستقبلهم وهم في ريعان شبابهم، ذلك كلّه طمعاً بحفنة
من المال!
ولا بدّ من بيان أنّ التجارة بهذه المادّة الخبيثة، لَهِي من أبرز مصاديق الإفساد
في الأرض، ذلك أنّها تُذهب عقلَ الإنسان، وتجعله بلا إدراكٍ ولا وعي، وعلى أقلّ
تقدير، تعمل على تقويض همّته ونشاطه وعنفوانه، حتى يقبع أسيراً لها، غير قادر على
العطاء والإنتاج!
وهي سبب من أسباب دمار المجتمع الإنسانيّ، على صعيد الأمن، والاقتصاد، والدين،
والأخلاق، والعلم، إنّها تزرع الضغينة والبغضاء بين الناس، وتهتك الحرمات والأعراض.
حكم التجارة بالمخدِّرات
إنّ الحكم بحرمة التجارة بهذه المادّة الخبيثة، لا اختلاف فيه بين فقهائنا ومراجعنا
العظام، فإنّهم أفتوا بحرمة استخدام، وحرمة التجارة بأنواع المخدِّرات كلّها، التي
تستخدم في إذهاب عقل الإنسان، ولأغراض غير طبيّة مدروسة. وهذا الحكم مبنيٌّ على
أساس فقهيّ يقول أنّ: "مقدّمة الحرام حرام"، وعلى أساس آخر أيضًا، وهو حرمة الإعانة
على الإثم والعدوان، قال الله -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[12].
ومن مصاديق التعاون، هو المساعدة في تأمين هذه المادة، ونقلها وحماية ناقليها
وبائعيها، فهذا كلّه يدخل تحت عنوان " الإعانة على الإثم".
ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّه لا يقتصر الأمر في حكم التجارة بالمخدِّرات على
الحكم التكليفيّ، بل أيضاً، يتعدى إلى الحكم الوضعيّ، وهو المتعلّق بنفس المال الذي
يجنيه تجّار المخدِّرات، فإنّه مال سحت وحرام، لا يجوز لهم الشراء به، ولا التجارة
به، حتى ولو كان ذلك بالأمور المحلّلة، فكل ما يجنيه هؤلاء من مال من بيع هذه
المادّة، ممّا يؤدّي إلى تحطيم حياتهم وإدمانهم عليها، فهو مال سحت وحرام.
زراعة الحشيش ونباتات المخدِّرات
لا يختلف حكم زراعة النباتات المنتجة للمخدِّرات، كحشيشة الكيف والقنّب الهنديّ، عن
حكم التجارة بالموادّ المخدِّرة بأشكالها المختلفة، ذلك إذا كانت زراعتها بهدف
استخدامها بغير الطرق المشروعة في الإسلام، وفي ذلك أيضًا، يُحرم العمل بكلّ ما
يعين على زراعتها، كبَذرها وسقايتِها وقطفِها وتجهيزِها للنقل وما شاكل ذلك.
[1] سورة الأعراف، الآيات 54-56.
[2] سورة البقرة، الآية 30.
[3] سورة لقمان، الآية 20.
[4] سورة إبراهيم، الآية 32.
[5] سورة الأحزاب، الآية 72.
[6] سورة هود، الآية 61.
[7] كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج3، ص 892.
[8] مستدرك الوسائل، النوريّ، ج13، ص26.
[9] سورة الأعراف، الآية 56.
[10] سورة الأعراف، الآية 85.
[11] الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد الطباطبائيّ، ج8، ص187.
[12] سورة المائدة، الآية 2.