السيّدة فاطمة، الصدّيقة
الشهيدة
محاور الخطبة
- من صفات السيّدة الزهراء (ع)
- تاريخ شهادتها (ع)
- لحظات حياتها الأخيرة
- مراسم التشييع والدفن
- كلام الإمام أمير المؤمنين (ع) عند دفن السيّدة فاطمة (ع)
مطلع الخطبة
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
"بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، سلّمتكِ أيّتها الصدّيقة إلى من هو أولى بكِ منّي، ورضيت لكِ بما رضي الله
-تعالى- لكِ»، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ
وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى﴾"[1].
هكذا كانت بعض كلمات أمير المؤمنين (ع)، حين دفن سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها
السلام).
أيّها الأحبّة،
إنّنا في أيّام حزن وألم، على وفاة امرأة، ما زال طيف أخلاقها، وسموّ فكرها
وإنسانيّتها، يطفو على كلمات العلماء والشعراء والعارفين بالله، ويتأسّى بها
المحبّون لله من نساء ورجال، وهي التي تجسّدت في مفاصل حياتها، معاني الإنسانيّة
كلّها، حتّى كانت سيّدة نساء العالمين، وكانت الصدّيقة الطاهرة، وكانت المحدَّثة
والمحدِّثة، وكانت العالمة العاقلة.
من صفات السيّدة الزهراء (ع)
ولنا أن نذكر، ولو صفة من صفاتها، وهي العلم والتعليم، فقد كانت (عليها السلام)
تواكب أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت تتصدّى لتعليم النساء في
المدينة أحكام دينهنّ، حتّى أنّ النساء كنّ يأتين بيتها في كثير من الأحيان، طلباً
للعلم والمعرفة، فقد روي عن الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) أنّه قال: "حضرت
امرأة عند الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فقالت: "إنّ لي والدة ضعيفة، وقد
لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليكِ أسألك"، فأجابتها فاطمة (عليها
السلام) عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثمّ ثلّثت فأجابت، إلى أن عشّرت فأجابت، ثمّ خجلت
المرأة من الكثرة، فقالت لها: "لا أشقّ عليك يابنة رسول الله"، فقالت فاطمة (عليها
السلام): "هاتي وسلي عمّا بدا لك. أرأيتِ من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل،
وكِراه مئة ألف دينار، يثقل عليه؟" فقالت: "لا"، قالت: "اكتريت أنا بكلّ مسألة،
بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً؛ فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلّى
الله عليه وآله) يقول: «إنّ علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات، على
قدر كثرة علومهم، وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف
حلّة من نور"[2].
وهكذا عُرفت (عليها الصلاة والسلام) بتلك الألقاب الرفيعة كلّها، التي ما جمعتها
امرأة على وجه الأرض عبر التاريخ، ومع سموّ منزلتها حسباً ونسباً وعلماً وأخلاقًا
وفكراً، إلّا أنّ حياتها قد انتهت بمأساة عظيمة، تعرّضت فيها للحزن والألم والحسرة،
على ما فعله بعض الذين أعماهم حبّ الدنيا عن رؤية الحقّ، حتّى اعتدَوا على حرمة
بيتها، حتّى أُسقط جنينها، وماتت بسبب ضربة ما زال وقع ألمها يُدمع أعين المحبّين،
ضربةٍ أودت بها أن تموت شهيدةً في سبيل الله -تعالى-.
تاريخ شهادتها
ولا بدّ هنا، من ذكر شيء تاريخيّ، يتعلّق بتاريخ شهادتها (عليها الصلاة والسلام)،
وقد ذُكر في ذلك آراء وأقوال متعدّدة، نذكر منها قولين اثنين، يُعتبران الأشهر من
بين الأقوال:
القول الأوّل: الثالث عشر من جمادى الأولى، وبهذا، فإنّ شهادتها تكون بعد رحيل
النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بـ (٧٥) يوماً، وقد ورد هذا القول في مصادر
تاريخيّة عديدة، وهذا ما رواه الشيخ الكلينيّ، والشيخ المفيد (قدّس سرّه)، وابن شهر
آشوب، وقد ورد في الخبر: "أنّها عاشت بعد أبيها خمساً وسبعين يوماً"[3].
القول الثاني: اليوم الثالث من جمادى الآخرة؛ أي إنّها (عليها السلام) استشهدت بعد
رحيل أبيها (ص) بـ (٩٥) يوماً، وهذا القول ورد في مصادر عديدة أيضاً.
وإنّ الاختلاف في تاريخ شهادتها، إنّما يعود لاختلاف الروايات الواردة في ذلك،
والتي تأثّرت بعوامل عديدة؛ منها عدم انتشار ظاهرة تدوين تواريخ الوفيّات في ذلك
الوقت، وربّما يعود أيضًا للعلّة نفسها التي أُخفيَ بسببها موضع قبرها (عليها
السلام)، وإنّ هذا لمن المفارقات الكبرى، التي ما زال المؤرّخون المسلمون، بجميع
أطيافهم ومذاهبهم، عاجزين عن تحديد موضعه والفصل فيه.
لحظات حياتها الأخيرة
انتقلت السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى فراشها المفروش وسط البيت،
واضطجعت مستقبلةً القبلة.
وقيل: "إنّها أرسلت ابنتيها، زينب وأمّ كلثوم، إلى بيوت بعض الهاشميّات، لئلاّ
تشاهدا موت أمّهما"؛ ذلك كلّه من باب الشفقة والرأفة والتحفّظ عليهما، من صدمة
مشاهدة المصيبة.
كان الإمام عليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) خارج البيت في تلك الساعة، ولعلّ
خروجهم كان لأسباب قاهرة وظروف معيّنة.
وقد ورد عن أسماء أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) لمّا حضرتها الوفاة، قالت
لأسماء: "إنّ جبرئيل أتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لمّا حضرته الوفاة بكافور من
الجنّة، فقسّمه أثلاثاً، ثلث لنفسه، وثلث لعليّ، وثلث لي، وكان أربعين درهماً"،
فقالت: "يا أسماء، ائتني ببقيّة حنوط والدي من موضع كذا و كذا، وضعيه عند رأسي"،
فوضعته، ثمّ قالت لأسماء حين توضّأت وضوءها للصلاة: "هاتي طيبي الذي أتطيّب به،
وهاتي ثيابي التي أصلّي فيها"، فتوضّأت، ثمّ تسجَّت بثوبها، ثمّ قالت: "انتظريني
هنيئةً وادعيني، فإن أجبتك، وإلّا فاعلمي أنّي قدمت على أبي فأرسلي إلى عليّ".
وحين حانت ساعة الاحتضار وانكشف الغطاء، نظرت السيّدة فاطمة (عليها السلام) نظرةً
حادةً، ثمّ قالت: "السلام على جبرئيل، السلام على رسول الله، اللهمّ مع رسولك،
اللهمّ في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام"، ثمّ قالت: "هذه مواكب أهل السماوات،
وهذا جبرئيل، وهذا رسول الله يقول: "يا بنيّة، أَقدمي فما أمامكِ خيرٌ لك"، وفتحت
عينيها، ثمّ قالت: "وعليك السلام يا قابض الأرواح، عجّل بي ولا تعذّبني"، ثمّ قالت:
"إليك ربّي، لا إلى النار"، ثمّ أغمضت عينيها، ومدّت يديها ورجليها.
فنادتها أسماء، فلم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها، فإذا بها قد فارقت الحياة، فوقعت
عليها تقبّلها، وهي تقول: "يا فاطمة، إذا قدمت على أبيك رسول الله، فأقرئيه عن
أسماء بنت عميس السلام". ودخل الحسن والحسين، فوجدا أمّهما مسجّاةً، فقالا: "يا
أسماء، ما يُنيم أمّنا في هذه الساعة؟" قالت: "يابنيّ رسول الله، ليست أمّكما
نائمةً، بل قد فارقت الدنيا."
فألقى الحسن نفسه عليها، يقبّلها مرةً ويقول: "يا أمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي
بدني"، وأقبل الحسين يقبّل رجلها، ويقول: "أنا ابنك الحسين، كلّميني قبل أن يتصدّع
قلبي فأموت".
فقالت لهما أسماء: "يابنيّ رسول الله، انطلقا إلى أبيكما عليّ، فأخبراه بموت
أمّكما"، فخرجا حتّى إذا كانا قرب المسجد، رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدر إليهما
جمع من الصحابة، وسألوهما عن سبب بكائهما، فقالا: "قد ماتت أمّنا فاطمة (عليها
السلام)"؛ فوقع الإمام عليّ (عليه السلام) على وجهه يقول: "بمن العزاء يا بنت
محمّد، كنت بك أتعزّى، ففيمَ العزاء من بعدك؟!".
ثمّ قال:
لكلّ اجتماعٍ مِنْ خليلَيْنِ فرقة وكلّ الذي دون الفراق قليل
وإنَّ افتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل[4]
مراسم التشييع والدفن
وفي هذه اللحظات، ارتفعت أصوات البكاء من بيت عليّ (عليه السلام)؛ فارتجّت المدينة
بالبكاء من الرجال والنساء، ودُهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم)، واجتمعت نساء بني هاشم في دار فاطمة (عليها السلام)، فصرخن وبكين،
وأقبل الناس إلى عليّ (عليه السلام)، وهو جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان،
وخرجت أمّ كلثوم، وهي تقول: "يا أبتاه، يا رسول الله! الآن حقّاً فقدناك فقداً، لا
لقاء بعده أبداً"[5].
واجتمع الناس، فجلسوا وهم يضجّون، وينتظرون خروج الجنازة ليصلّوا عليها. وخرج أبو
ذرّ، وقال: "انصرفوا، فإنّ ابنة رسول الله قد أُخّر إخراجها في العشيّة".
وهكذا تفرّق الناس، وهم يظنّون أنّ الجنازة تُشيّع صباح غد، ولكنّ الإمام عليّاً
(عليه السلام)، غسّلها وكفّنها هو وأسماء في تلك الليلة، ثمّ نادى: "يا حسن، يا
حسين، يا زينب وأمّ كلثوم، هلمّوا فتزوّدوا من أمّكم، فهذا الفراق، واللقاء في
الجنّة". وبعد قليل، نحّاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عنها[6].
ثمّ صلّى عليٌّ على الجنازة، ورفع يديه إلى السماء، فنادى: "اللهمّ، هذه بنت نبيّك
فاطمة، أخرجتَها من الظلمات إلى النور، فأضاءت ميلاً في ميل".
فلمّا هدأتِ الأصوات، ونامت العيون، ومضى شطر من الليل، تقدّم أمير المؤمنين
والعبّاس والفضل بن العباس ورابع، يحملون ذلك الجسد النحيف، وشيّعها الحسن والحسين
وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وبريدة وعمّار[7].
ونزل عليّ (عليه السلام) إلى القبر، واستلم بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، وأضجعها في لحدها، وقال: "يا أرض، أستودعك وديعتي هذه بنت رسول الله، بسم
الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله محمّد بن عبد الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، سلّمتكِ أيّتها الصدّيقة، إلى من هو أولى بكِ منّي،
ورضيت لكِ بما رضي الله -تعالى- لكِ"، ثمّ قرأ: ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى﴾، ثمّ خرج من القبر، وتقدّم
الحاضرون، وأهالوا التراب على تلك الدرّة النبويّة، وسوّى عليّ (عليه السلام)
قبرها.
كلام الإمام أمير المؤمنين (ع) عند دفن السيّدة فاطمة (ع)
روى الشريف الرضيّ في نهج البلاغة، أنّ أمير المؤمنين (ع) وقف بعد دفنه للسيّدة
الزهراء (ع) عند قبر رسول الله (ص) كَالْمُنَاجِي له، فقال:" السَّلَامُ علَيْكَ
يَا رَسُولَ اللَّه، عَنِّي وعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ،
والسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّه عَنْ صَفِيَّتِكَ
صَبْرِي، ورَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ
فُرْقَتِكَ، وفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي
مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ، فَـ ﴿إِنَّا
لِلَّه وإِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ﴾[8]، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ،
وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ،
إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّه لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ،
وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا
السُّؤَالَ، واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، ولَمْ يَخْلُ
مِنْكَ الذِّكْرُ، والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا، سَلَامَ مُوَدِّعٍ، لَا قَالٍ ولَا
سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ
ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّه الصَّابِرِينَ"[9].
[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 79، ص27.
[2] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 3.
[3] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 43، ص 315.
[4] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 43، ص 187.
[5] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 43، ص 192.
[6] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 43، ص 179.
[7] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 43، ص 193.
[8] سورة البقرة، الآية 156.
[9] نهج البلاغة، ج 2، ص 182.