محاور الخطبة
- المسجد الأقصى أولى القبلتين
- إعلان يوم القدس العالميّ
- خنوع الحكّام وضعفهم
- تقاعس الشعوب وتفرّقها
- حذارِ من أساليب التطبيع
مطلع الخطبة
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[1].
المسجد الأقصى أولى القبلتين
أيّها الأحبّة،
إنّ للقدس وللمسجد الأقصى مكانةً مهمةً في ثقافتنا الإسلاميّة، وقد اتّخذت القدس هذه المكانة أوّلاً من وجود المسجد الأقصى فيها، وقد اتُّخذت قبلةً أولى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين، فقد ورد أنّ المسلمين كانوا قد توجّهوا في صلاتهم إلى المسجد الأقصى لمدّة ستّة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، حتّى أنزل الله -تعالى- أمره على رسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرّفة، كما في قوله -سبحانه-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون}[2].
وكذلك كان المسجد الأقصى محطّة من محطّات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين إسرائه ومعراجه، وقد صلّى فيه بصحبة جبرائيل (عليه السلام)، وعدد من الأنبياء المكرّمين (عليهم الصلاة والسلام).
وإنّ ارتباط المسلمين بالأقصى والقدس، لا يرجع إلى كونه قبلة النبيّ الأولى، أو مسرىً له (صلّى الله عليه وآله) فحسب، بل إنّ هذه البقعة من الأرض أيضاً إنّما هي أرض للمسلمين، ولهم فيها تاريخ لا يمكن إخفاؤه وطمسه.
إلّا أنّ يد الاستكبار العالميّ أرادت النيل من هذه البقعة الطيّبة وأهلها، فدعمت ثلّةً بغيضةً بالمال والسلاح والسياسة، حتّى استقرّت فيها، وما زالت تعمد إلى الاعتداء على أهلها ومقدّساتها ومساجدها، لعقود من الزمن.
إعلان يوم القدس العالميّ
ومن هذا المنطلق، ومن منطلق دينيّ وإنسانيّ، وفي ظلّ تخاذل دوليّ مقيت، عَمَدَ الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه) لدعم القدس ومسجدها، ليُعلن عن يوم خاصّ للقدس، عُرف بيوم القدس العالميّ، وليكون مفصلاً تاريخيّاً يشير إلى قضيّة فلسطين، وقضيّة المسلمين، فلا تضيع حينها بين أروقة الحكّام الذين خنعوا هنا أو هناك، والذين استسلموا هنا أو هناك.
وهكذا صار يوم القدس العالميّ عالميّاً، حتّى أصبحت سيرة القدس في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، من كلّ عام، حديث الناس ومحطّ اهتماماتهم، في الإعلام والصحف والمدارس والجامعات وما شاكل، فضلًا عن المسيرات العميمة التي تعمّ شوارع أهمّ مدن العالم، وعواصم البلدان في جميع العالم، والتي من خلالها تبقى القدس حيّةً في نفوس المسلمين، مهما تخاذل الحكّام وأصحاب السلطة.
أسباب استقواء الصهاينة وعدم وجود حلّ للقضية الفلسطينيّة
أوّلاً: خنوع الحكّام وضعفهم
لو أردنا قراءة ما حكاه الإمام الخمينيّ (قده) عن القدس وما يتعلّق بها، لوجدنا أنّها كانت محورَ فكره السياسيّ، فقد كان ينظر إليها على أنّها الركيزة الأساس التي ينبغي للمسلمين جميعهم أن يجتمعوا عليها ويوحّدوا فيها كلمتهم، ويُظهروا من خلالها قوّتهم وتعاضدهم وحرصهم على مقدّساتهم.
ولهذا، فإنّنا نجد في طيّات كلماته الكثير من التوجيهات، بل والتقريعات، التي أراد من خلالها أن يسلّط الضوء على مكامن ضعف الأمّة الإسلاميّة في ما يتعلّق بقضيّة القدس، وأُولى مكامنِ الضعفِ هذه كان يضعها على أصحاب السلطة والحكّام، وإنّنا نبيّنها هنا ضمن النقاط الآتية:
1- عدم أهليّة الحكّام، وعدم كفاءتهم في الصدّ عن الاعتداء على أرضهم ومقدّساتهم: "فلو كان حكّام البلدان الإسلاميّة ممثّلين حقيقيّين للناس، مؤمنين بأحكام الإسلام ومنفّذين لها، واضعين الاختلافات الجزئيّة جانباً، كافّين أيديهم عن التخريب والتفرقة، متّحدين فيما بينهم، لما استطاعت حفنة من اليهود الأشقياء أن يفعلوا هذه الأفاعيل كلّها، مهما كان الدعم الذي تقدّمه لهم أمريكا وإنكلترا، فما نراه من قدرتها -أي "إسرائيل"- وممارستها إنّما هو بسبب تهاون وعدم لياقة المتصدّين للحكم على الشعوب المسلمة"[3].
2- الخلافات بين قيادات الدول الإسلاميّة هي التي تحول دون علاج المشكلة بعد أن كانت سبباً في حصولها. يقول الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه): "إنّها اختلافات قادة الدول هي التي تعقّد المشكلة الفلسطينيّة، وتحول دون حلّها".
3- عمالة بعض القادة للاستكبار، وأنانيّتهم واستئثارهم بالحكم واستسلامهم: "إنّ الأنانيّة والعمالة واستسلام بعض الحكومات العربيّة للنفوذ الأجنبيّ المباشر يمنع عشرات الملايين من العرب من إنقاذ فلسطين من يد الاحتلال الإسرائيليّ".
4- التشتّت والانهزام النفسيّ لبعض القادة الذين يدينون للاستكبار في الحفاظ على عروشهم، ويدفعون ثمن ذلك ترسيخ الأوضاع المأساويّة في بلاد المسلمين. يقول الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه): "إنّ كثيراً من حكومات البلدان الإسلاميّة -ونتيجةً للانهزام النفسيّ، أو لعمالتها- تنفّد المخطّطات الخيانيّة، والرغبات المشؤومة الاستعماريّة المعادية للإسلام، والتي تهدف إلى ترسيخ هذه الأوضاع المأساويّة للمجتمع الإسلاميّ وإلى تسليط "إسرائيل" على أرواح وأموال وأراضي الأمّة الإسلاميّة".
5- انشغال أغلب الحكومات بالمفاوضات السياسيّة التي لا طائل منها: "إنّ أكثر الحكومات مشغولة بالقيام والقعود والمفاوضات التي لا نتيجة منها، تاركين المجاهدين الفلسطينيّين الشجعان الذين يقاومون "إسرائيل" برجولة لوحدهم".
6- تساهل بعض الرؤساء العرب، وعدم اهتمامهم بالقضيّة الفلسطينيّة، يقول الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه): "إنّ المشاكل جميعها التي يعاني منها إخواننا في القدس طوال هذه المدّة إنّما هي نتيجة لتساهل الرؤساء العرب".
ثانياً: تقاعس الشعوب وتفرّقها
وأيضاً، فكما أنّ هناك لوماً وانتقاداً للحكّام، فكذلك أيضاً هناك مسؤوليّة كبرى تُلقى على الشعب المسلم نفسه، من خلال فعاليّاته وطاقاته العلميّة والفكريّة والسياسيّة والفنيّة، وفئات الشعب المسلم جميعها، في أن يتّحد ويقوم بوجه المحتلّ الغاشم، ومن تلك الأسباب التي أشار إليها الإمام (قده)، وبأنّها تسهم في تقوية سطوة المحتلّين ما يلي:
- عدم الاعتماد والاستناد على الإسلام والقرآن، والتأثّر بالثقافة الغربيّة التي تعمل على تغيير معالم ثقافات الشعوب وأديانها للتسلّط عليها، وممّا قاله في ذلك: "لو أنّ الشعوب المسلمة وبدلاً من الاعتماد على المعسكر الشرقيّ، أو الآخر الغربيّ، اعتمدت على الإسلام، ووضعت تعاليم القرآن النوارنيّة والتحرّريّة نصب أعينها وعملت بها؛ لما وقعت أسيرةً للمعتدين الصهاينة".
- التفرّق والتشرذم بين المسلمين، والتلهّي بالمسائل الخلافيّة: "لو اجتمعت هذه القدرة -أي قدرة المئة مليون عربيّ- فإنّ أمريكا لن تستطيع أن تفعل شيئاً".
- التهاون والتقاعس وعدم القيام بأيّ فعل أو عمل في سبيل تغيير الواقع من قبل المسلمين: "يجب أن أقول: إنّ أعداء الإسلام كانوا رجال عمل لا كلام، والمسلمون كانوا رجال كلام لا عمل، فلو كان الأمر يخرج عن حدود الكلام، لما عجز أكثر من مئة مليون عربيّ إلى هذه الدرجة عن مواجهة إسرائيل".
حذارِ من التطبيع
أيّها الأحبّة،
إنّ الدفاع عن القدس وحمل قضيتها إنّما هو من منطلق دينيّ، يحتّم علينا العمل والتحرّك بكلّ ما أوتينا من قوّة لتحريرها من أيدي الغاصبين والمحتلّين، وإنما هذا امتثال لأوامر الله -تعالى- بل وهو حقّ إنسانيّ مشروع، لا يختلف فيه اثنان.
إلّا أنّ الذين يميلون للسلام مع الكيان الصهيونيّ، وبخطوات مدروسة يعمدون إلى تخفيف وطأة وعظمة هذا الأمر في نفوس الناس، وخاصّةً الشباب منهم، حتّى تصبح قضيّة القدس قضيّةً عابرةً، وأنّها أمر واقع لا مهرب منه ولا مفرّ، بل وأن يصبح وجود الصهاينة أمراً عاديّاً لا غرابة فيه ولا استهجان، وأنّه لا بد من التسليم به والتعايش معه! وهذا كلّه من سياسة التطبيع التي يجهد الاحتلال الإسرائيليّ قُصارى جهده على العمل به، مدعوماً من بعض الحكّام الخانعين؛ بهدف إرساء هذا الكيان الغاصب.
وإنّ هناك أساليب عديدة يعتمدها الصهاينة في إرساء التطبيع، أكان من خلال سفاراتها الواضحة المتواجدة في بعض العواصم العربيّة والإسلاميّة، أم من خلال التحرّكات والزيارات السياسيّة التي يقوم بها رجالات الكيان الغاصب إلى دولة هنا ودولة هناك، أو من خلال بعض الوسائل الإعلاميّة والقنوات التلفزيونيّة التي تستضيف بعض الشخصيّات الإسرائيليّة وإبداء رأيهم، وغير ذلك.
[1] سورة الإسراء، الآية 1.
[2] سورة البقرة، الآية 144.
[3] أقوال الإمام الخمينيّ الواردة في هذه الخطبة، نقلناها من كتاب "القدس في فكر الإمام الخمينيّ"، سلسلة الفكر والنهج الخمينيّ، إعداد ونشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة.