أدب الحوار في سيرة الإمام الرّضا (عليه السلام)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
أيّها الأحبّة،
نبارك للأمّة الإسلاميّة جمعاء، وعلى رأسها صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، ولنائبه الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، ذكرى ولادة الإمام الثامن من الأئمّة الأطهار، الإمام عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام).
هذا الإمام الذي تحلّى بأرفع الصفات وأنبلها، حتّى كان عنواناً وقدوةً للسالكين نحو الله -سبحانه-، سواء أكان في أخلاقه، أم في علمه، أم في آدابه، فقد كان في ذلك كلّه معلّماً ومرشداً، لمن كانوا في زمانه، إلى يومنا هذا.
عُرف الإمام الرضا (عليه السلام) بصفات وميّزات عديدة، منها أدب الحوار مع المخالفين له في الدّين والمذهب والرأي.
ولو أردنا أن ننظر في حواراته ومناظراته العلميّة التي أقامها مع أقطاب مختلف الملل والنحل، لوجدنا دروساً جليلة من دروس الأدب، فضلاً عن مكنوناتها العلميّة والفكريّة العظيمة.
وقد انطلق الإمام (عليه السلام) في مناظراته كلّها، من مبدأ إلهيّ قرآنيّ، يدعو لأن يكون الحوار والجدال في الدّين والمعتقدات بالتي هي أحسن، حيث يقول -سبحانه-: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[1].
فإنّ الله -تعالى- لم ينهَ عن الجدال بشكل مطلق، ورد عن الإمام الصّادق (عليه السلام)، بعد أن سُئل: هل أنّ الله نهى عن جدال الكافرين، فقال: «لم ينهَ عنه مطلقاً، ولكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله -عزّ وجلّ- يقول: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[2]، فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرّم حرّمه الله -تعالى- على شيعتنا«[3].
أيّ جدال منهيّ عنه؟
إنّ النهي عن الجدال إنّما توجّه إلى ذاك الجدال الذي يؤدّي إلى الخصومة والمدافعة، كما يجري الآن في كثير من المناظرات، خاصّة ما نجده عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وبعض وسائل الإعلام، التي تتّخذ من منصّاتها مكاناً للنقاش المستبطِن للخصومة وعدم الموضوعيّة، وهذا النمط من الجدال هو ما نهى عنه الإسلام، والذي ورد في عدد من أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، فعن الإمام الرّضا (عليه السلام) في وصيّته لعبد العظيم الحسنيّ: «يا عبد العظيم، أبلغ عنّي أوليائي السلام، وقل لهم: لا تجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومرهم بالصّدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم»[4].
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) لعليّ بن يقطين: «مر أصحابك أن يكفّوا من ألسنتهم، ويَدَعوا الخصومة في الدّين، ويجتهدوا في عبادة الله -عزّ وجلّ-»[5].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إيّاكم والخصومة؛ فإنّها تشغل القلب عن ذكر الله -عزّ وجلّ-، وتورِث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجيز الكذب»[6].
من أداب الحوار عند الإمام الرّضا (عليه السلام)
1. التوضّؤ: كان (عليه السلام) يعمد إلى التطهّر والتوضّؤ، ورد أنّ الفضل بن سهل قال له: جُعِلتُ فداك! ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم، فما رأيك في إتيانه؟ فقال له (عليه السلام): «تقدّمني، فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله»، ثمّ توضّأ (ع) وضوء الصلاة...[7].
2. البدء بالسلام: فعندما اجتمع إليه أهل الأديان في البصرة، وقد ثُني له وسادة، وجلس عليها، قال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تدرون لِمَ بدأتُكم بالسلام؟»، فقالوا: لا، قال: «لتطمئنّ أنفسكم»[8].
3. أن يكون الحوار لإظهار الحقيقة: بأن لا يحيط به العنف، كي لا يقع الطرف الآخر في مغبّة الخوف، فقد ورد أنّ أقطاب الأديان الذين حاورهم الإمام، ومنهم جاثليق، قالوا: لا يجوز لنا أن نقرّ لكم بأنّ محمّداً هو محمّدك؛، لأنّا إن أقررنا لك بمحمّد ووصيّه وابنته وابنيه على ما ذكرت، أدخلتمونا في الإسلام كرهاً، فقال (عليه السلام): «أنت -يا جاثليق- آمِن في ذمّة الله وذمّة رسوله، أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكره ممّا تخافه وتحذره»، قال: أمّا إذا قد آمنتني، فانّ هذا النبيّ الذي اسمه محمّد وهذا الوصيّ الذي اسمه عليّ[9].
4. الإنصاف وعدم التعنّت: بأن يُعطى الطرف الآخر فرصة طرح ما يريد، فقد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال لعمران الصابئيّ حين طلب من القوم السؤال: «يا قوم، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم»[10].
[1] سورة العنكبوت، الآية 46.
[2] سورة النحل، الآية 125.
[3] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص14.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج71، ص230.
[5] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص460.
[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص503.
[7] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ص201.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج49، ص74.
[9] المصدر نفسه، ج49، ص77.
[10] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص430.