الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
أيّها الأحبة،
لا بدّ في ذكرى ولادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) من أن نعرجَ، ولو قليلاً، على بعض ما أُثِر عنه من مناقبَ جليلةٍ وصفاتٍ رفيعة، تجلّت في شخصيّته المباركة، في أفعاله وأقواله، حتّى بات مُرشِداً لجميع الناس في أن يحذوا حذوه، ويقتدوا بأفعاله وأقواله، سواءٌ أكانوا من شيعته أم من خصومه وأعدائه على حدٍّ سواء، في عبادته وأخلاقه وأدبه وحكمته وعلمه، فقد كان في ذلك كلِّه قدوةً وأسوةً حسنة.
وقد ذكره كُتَّابُ السِيَر بأجمل التوصيفات، منها ما قاله ابن الصباّغ: «أمّا مناقبُه وكراماتُه الظاهرةُ وفضائلُه وصفاتُه الباهرةُ، فتشهدُ له بأنَّه اقترعَ قبّةَ الشرفِ وعُلاها، وسما إلى أوجِ المزايا فبلغَ أعلاها، وذُلّلَتْ له كواهلُ السيادةِ وامتطاها، وحكم في غنائمِ المجدِ فاختار صفاياها فاصطفاها»[1].
ولنا في هذا المقام أن نذكر بعضَ مناقبه (عليه السلام) التي أُثِرتْ عنه، منها:
1. العبادة
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): «كان أبو الحسن (عليه السلام) أعبدَ أهل زمانه، وأفقهَهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً. رُوي أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويَصِلَها بصلاة الصبح، ثمّ يُعقّب حتّى تطلعَ الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسَه من الدعاء والتمجيد حتّى يقربَ زوالُ الشمس، وكان يدعو كثيراً، فيقول: اللهمّ، إنّي أسألك الراحةَ عند الموت، والعفوَ عند الحساب، ويكرّر ذلك. وكان من دعائه: عظُم الذنب من عبدك، فلْيحسُنِ العفو من عندك. وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلَّ لحيته بالدموع»[2].
وعن هشام بن الأحمر، قال: كنت أسير مع أبي الحسن (عليه السلام) في بعض أطراف المدينة، إذ ثنى رجلَه عن دابّته فخرّ ساجداً، فأطال وأطال، ثمّ رفع رأسه وركب دابّته، فقلتُ: جُعِلتُ فداك! قد أطلْتَ السجود! فقال: «إنّني ذكرتُ نعمةً أنعم الله بها عليّ؛ فأحببتُ أن أشكرَ ربّي»[3].
2. التواضع ومكارم الأخلاق
مرّ برجل من أهل السواد[...]، فسلّم عليه، ونزل عنده، وحادثه طويلاً، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجةٍ إن عرضَتْ له، فقيل له: يابن رسول الله، أتنزل إلى هذا، ثمّ تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟! فقال (عليه السلام): «عبدٌ من عبيد الله، وأخٌ في كتاب الله، وجارٌ في بلاد الله، يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعلّ الدهر يردّ من حاجتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه»[4].
3. كرمه وسخاؤه
قال ابن الصبّاغ: «كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبدَ أهلِ زمانه، وأعلمَهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمَهم نفساً، وكان يتفقّد فقراءَ المدينة، ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، وما علموا بذلك إلّا بعد موته (عليه السلام)»[5].
وعن محمّد بن عبد الله البكريّ، قال«قدمتُ المدينةَ أطلب بها دَيناً فأعياني، فقلتُ: لو ذهبتُ إلى أبي الحسن موسى بن جعفر فشكوتُ ذلك إليه، فأتيتُه بنقمي[6] في ضيعته، فخرج إليّ ومعه غلام له، معه منسف فيه قديد مُجَزّع[7] ليس معه غيره، فأكل وأكلتُ معه، ثمّ سألني عن حاجتي، فذكرتُ له قصّتي، فدخل، فلم يقم إلّا يسيراً حتّى خرج إلّي، فقال لغلامه: «اذهب»، ثمّ مدّ يده إليّ، فدفع إليّ صرّةً فيها ثلاثمئة دينار، ثم قام فولّى، فقمتُ فركبتُ دابّتي وانصرفتُ»[8].
4. الحلم
كان الإمامُ الكاظم (عليه السلام) مضربَ مثلٍ في الحلم وكظم الغيظ ومجازاة المسيئين إليه بالإحسان إليهم، قال الشيخ المفيد: «سُمّي بالكاظم؛ لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين به، حتّى مضى قتيلاً في حبسهم ووثاقهم»[9].
وكان (عليه السلام) يوصي أبناءه بالتحلّي بالحلم والصفح عمّن أساء إليهم، فقد ورد أنّه أحضر ولده يوماً، فقال لهم: «يا بَنيّ، إنّي موصيكم بوصيّة، فمن حفظها لم يضع معها؛ إن أتاكم آتٍ فأَسمَعكم في الأذنِ اليمنى مكروهاً، ثمّ تحوّل إلى الأذنِ اليسرى، فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً، فاقبلوا عذره»[10].
[1] ابن الصباّغ، الفصول المهمّة، ج2، ص937.
[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص231.
[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج7، ص20.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص326.
[5] ابن الصبّاغ، الفصول المهمّة، ج2، ص949.
[6] نقمي: موضع من أعراض المدينة، كان لآل أبي طالب.
[7] القديد: اللحم المملوح المجفّف في الشمس، والمجزعّ: المقطّع.
[8] البغداديّ، تاريخ بغداد، ج 13، ص29.
[9] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص235.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 68، ص425.