الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
قد يغفل الكثيرون عن الصلاة التي تُعدّ من أعظم العبادات وأفضلها، سواءٌ أكان في أصل أدائها، أم في شكل أدائها وكيفيّته؛ فمنهم من يتركها ويهجرها من دون أيّ عذر، فهؤلاء في الحقيقة يحرمون أنفسَهم أُنسَ الوصال بينهم وبين خالقهم -سبحانه وتعالى-، فضلاً عن ارتكابهم الإثم في معصية ترك الصلاة، ومنهم من يؤدّيها ويلتزم بها، بل وفي أوقاتها المحدّدة، إلّا أنّه لا يؤدّيها طبقاً لآدابها الظاهريّة والمعنويّة على حدٍّ سواء، فمثل هؤلاء أيضاً يحرِمون أنفسهم الكثير من بركات الصلاة المنشودة وآثارها، سواءٌ أكان على مستوى الحياة الدّنيا أم الآخرة.
إنّ النبيَّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، لم يألوا جهداً في بيان أهمّيّة الصلاة وآدابها، وذلك كلّه يشير إلى ضرورة التذكير بها، كي لا يقع المؤمنون في غفلةٍ عن ذلك، وأشدّ ما ركّزوا عليه في أقوالهم حول الصلاة هو الخشوع، وقد تُرجِم ذلك في أفعالهم، إذ كان المعصوم (عليه السلام) يعيش حالةً من الخشوع التامّ قبيل صلاته وأثناءها، فقد رُوي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان «إذا قام إلى الصّلاة، تربّد وجهه خوفاً من اللَّه -تعالى-»[2].
وهكذا كان حال أمير المؤمنين (عليه السلام)، «كان إذا حضره وقت الصّلاة، تلوّن وتزلزل، فقيل له: ما لك؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله -تعالى- على السماوات والأرض والجبال، فأبَيْنَ أن يحملْنها، وحملها الإنسان! وأنا في ضعفي، فلا أدري أَأُحسِنُ إذا ما حُمِّلتُ أم لا!»[3].
حقيقة الخشوع
أمّا حقيقة الخشوع فهو كما عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «التواضع في الصّلاة، وأن يُقبلَ العبد بقلبه كلّه على ربّه -عزّ وجلّ-»[4].
أهمّيّة الخشوع
ترجع أهمّية الخشوع في الصلاة، إلى إضفاء حالة معنويّة مُثلى ينبغي أن يكون عليها المصلّي، وهي أن يكون خاشعاً خاضعاً بين يديّ الله -سبحانه-، فالخشوع يُسهِم في تفاعل القلب، مع الأذكار والأفعال الواردة في الصلاة، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سرّه): «من الآداب القلبيّة المهمّة في العبادات، خصوصاً ما يتميّز منها بالذكر، الطمأنينة؛ فهي إشارةٌ إلى أداء السالك العبادةَ بسكينة قلبٍ، واطمئنانِ بالٍ. فالسالك إذا قام بأداء تلك الأعمال، وهو في حالةٍ من اضطراب القلب وعدم الاستقرار، فإنّ القلبَ لن يتفاعل معها»[5].
أثر الصلاة بخشوع
الصلاة التي تُرتجى، هي تلك الصلاة التي تعمل على تغييرٍ جذريٍّ في قلب الإنسان، ولا يتحقّق ذلك إلّا حين تُؤدّى بآدابها المعنويّة، فليست الصلاة إلّا طريقاً للوصول إلى هدفٍ سامٍ، ألا وهو نقاء القلب، وتصفيته من الأدران، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لكُميل بن زياد: «يا كُميل، ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، الشأن أن تكون الصلاة بقلبٍ نقيّ، وعملٍ عند الله مرضيّ، وخشوعٍ سويّ، وانظر فيمَ تصلّي؟ وعلامَ تصلّي؟ إن لم يكن من وجهه وحلّه، فلا قَبول»[6].
كيف يتحقق الخشوع؟
الكثير من النّاس يتوهّم صعوبة ذلك، إلّا أنّه وبشيء قليل من التأمّل، نجد أنّ الخشوعَ أمرٌ سهلٌ على كلّ إنسان، إذا ما التفت إلى بعض المقدّمات قبيل صلاته وحينها، وهي ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً: «إذا استقبلْتَ القبلةَ فانسَ الدنيا وما فيها، والخلقَ وما هم فيه، واستفرغ قلبَك من كلّ شاغل يشغلك عن الله، وعاين بسرِّك عظمةَ الله، واذكر وقوفَك بين يديه يومَ تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ، وقِف على قدم الخوف والرجاء، فإذا كبّرت فاستصغر ما بين السماوات العلى والثرى، دون كبريائِه، فإنّ الله -تعالى- إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبّر، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، قال: يا كاذب، أتخدعني؟! [...] واعلم أنّه غير محتاج إلى خدمتك، وهو غنيّ عن عبادتك ودعائك، وإنّما دعاك بفضله ليرحمك، ويبعدك من عقوبته»[7].
ولا يظننّ أحدٌ أنّ كلَّ ما ورد في هذا الحديث صعب مستصعب، إنّما يحتاج إلى شيء من التأمّل والتدبّر لا أكثر، كي يسلك المرء طريق الخشوع، ومنها إلى كلّ تلك الآثار المنشودة من الصلاة.
[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 و2.
[2] الشيخ النوريّ، مستدرك الوسائل، ج4، ص93.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج81، ص256.
[4] المصدر نفسه، ج81، ص264.
[5] الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه)، الآداب المعنويّة للصلاة، في بيان الطمأنينة، ص13.
[6] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص174.
[7] الشيخ النوريّ، مستدرك الوسائل، ج4، ص96.