الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
أيّها الأحبّة،
ثمّة آيات عديدة وأحاديث شريفة كثيرة، زخرت بالحثّ على برّ الوالدين والإحسان إليهما، والنهي عن عقوقهما، وذلك كلّه يدلّ على جلالة مكانة الوالدين وعظمتها في حياة أبنائهم، ويكفي للدّلالة على ذلك أنّ الله -تعالى- قد قرن لزوم عبادته بالإحسان إليهما، كما في الآية المباركة: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾[1].
فالإحسان إلى الوالدين والبرّ بهما أمر مفروض من الباري -سبحانه وتعالى- لا يتهاون مع المقصّرين به، حتّى وإن كان الوالدان كافرين أو ظالمين، أو سيّئَي الأخلاق، فمع ذلك كلّه لا يسقط وجوب البرّ على الأبناء، قال الله -سبحانه-: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾[2].
عن الإمام الباقر(عليه السلام): «ثلاثٌ لم يجعلِ اللّهُ -تعالى- فيهنّ رخصةً: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برَّين كانا أو فاجرين»[3].
لا حدود للبرّ بالوالدين
لا يقف برّ الوالدين عند حدٍّ معيّن، فمهما قدّم المرء أمام والديه من عطاء وخدمة واهتمام يبقى دون مقامهما، وقد ورد ما يدلّ على ذلك في بعض الرّوايات، منها ما عن إبراهيم بن شعيب، قال: قلتُ لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ أبي قد كَبُر جدّاً وضَعُف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة، فقال: «إنِ استطعت أن تليَ ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك؛ فإنّه جنّة لك غداً»[4].
خفض الجناح للوالدين
أمر الله -تعالى- في كتابه الكريم، بأن يخفض المرء جناح الذلّ لوالديه، فما المقصود به؟
عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورِقّة، ولا ترفع صوتَك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدّامهما«[5].
برّ الوالدين بعد وفاتهما
لا يقتصر البرّ بالوالدين في كونهما على قيد الحياة، بل يستمرّ حتّى بعد موتهما، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ العبدَ ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عاقّاً. وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه اللّه -تعالى- بارّاً»[6].
فضل برّ الوالدين
إنّ لبرّ الوالدين فضلاً عظيماً عند الله -تعالى-، يَجزي به صاحبَه خيراً في الدّنيا وما بعدها، فعن الإمام الصّادق (عليه السلام): «من أحبّ أن يخفّف اللّه -عزّ وجلّ- عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً. فإذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقرٌ أبداً»[7].
العقوق
في الوقت الذي سمعنا فيه مدى عظمة برّ الوالدين واتّساع دائرة ذلك دون حدود، فإنّنا نجد في المقابل أنّ أموراً بسيطة جداً، إذا ما اقترفها الإنسان فإنّه يعدّ بها عاقّاً لوالديه، ما يوجب بذلك غضب الله -تعالى-، وقد يصل أدنى العقوق إلى كلمة «أفّ» التي ذكرها الله -تعالى- في كتابه، تعبيراً عن خطورة الكلام مع الوالدين، وأنّه ينبغي انتقاء الكلمات بعناية تامّة، قال -سبحانه-: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيماً﴾[8].
وكذلك النظر والصوت المرتفع وباقي التصرّفات، فكلّ ذلك يؤدي إلى عقوق الوالدين، ما يحتّم على الأبناء دوماً أن يتنبّهوا إلى ذلك، وأن يكونوا شديدي الحرص في التعامل مع آبائهم وأمّهاتهم.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أفّ، لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرّجل إلى والديه، فيحدّ النظرَ إليهما»[9].
والحمد لله ربِّ العالمين
[1] سورة الإسراء، الآيتان 23 و24.
[2] سورة لقمان، الآيتان 14 و15.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص162.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص162.
[5] المصدر نفسه، ج2، ص162.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص163.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص473.
[8] سورة الإسراء، الآية 23.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج71، ص64.