الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
«وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشّهْرُ مُقَامَ حَمْدٍ، وَصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُورٍ، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ«[1].
أيّها الأحبّة،
ها هي أيّام شهر رمضان ولياليه قد تصرّمت، وأقبل عيد الفطر المبارك، لينطلق الإنسان في سلوك طريق جديدة، عبّده ببركات أيّام هذا الشهر وأعماله، من واجبات ومندوبات وتفكّر وتأمّل، ما يحتّم عليه أن يكون قد خرج وقلبه مشحون بطاقات روحيّة وإيمانيّة، حريّ به أن يحفظها وألّا يضيّع ما اكتسبه من عادات طيّبة وأعمال حسنة.
إنّ لوداع شهر رمضان المبارك، آداباً قد التزم بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وهم يظهرون أيّما ألم على فراقه، بل ويُحيّيونه في وداعهم إيّاه، وكأنّما يُحيّيون رجلاً صالحاً أقام فيهم طويلاً، وهم ينهلون من عطائه، وجزيل كرمه وسخائه، حتّى آنسهم وجودُه وآلمهم فراقُه.
إنّ من جميل ما ذُكِر في وداع هذا الشهر الكريم ما ورد[2] عن الإمام عليّ زين العابدين (عليه السلام) وهو يبيّن في وداعه عدداً من صفات هذا الشهر ومكرماته.
وممّا يلفت النظر في وداع الإمام (عليه السلام)، هو تسلميه على الشهر وتكرار ذلك مراراً، تأكيداً منه على تعظيمه إيّاه، وبعد كلّ تحيّة ذِكرُ شيء من أوصافه، ومن ذلك:
شهر الإعانة على الشيطان
قوله (عليه السلام): «السلام عليك من ناصرٍ أعانَ على الشيطان»، ذلك أنّه الشهر الذي تُغَلّ فيه الشياطين، وتُفتَح فيه أبواب الرّحمة الإلهيّة.
شهر العتق من النّار
قوله: «السلام عليك، ما أكثر عتقاء الله فيك!»، وهو الذي قيل فيه: «الشقيّ من حُرِمَ غفرانَ اللهِ في هذا الشهر»[3].
وعن محمّد بن مروان عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّ لله -عزّ وجلّ- في كلّ ليلة من شهر رمضان عتقاء وطلقاء من النار، إلّا من أفطر على منكر، فإذا كان آخر ليلة أعتق فيها بمثل ما أعتق في جميعه»[4].
شهر ثقيل على المجرمين عظيم عند المؤمنين
قوله (عليه السلام): «السلام عليك، ما كان أطولَك على المجرمين! وأهيبَك في صدور المؤمنين!».
فقد كان شهراً مملوّاً بمظاهر الإيمان والخشوع، ومحفوفاً ببركات تلاوة القرآن الكريم فيه، مباركاً بساعاته وأوقاته، ما يجعل العصاة أقصر يداً في جرأتهم على مولاهم، حيث تتحرّك قلوبهم نحو الباري -سبحانه-، ويجعل المؤمنين أشدّ مهابة وإجلالاً لهذا الشهر الكريم.
شهر محبوب
ومع أنّ هذا الشهر المبارك، هو شهر ابتعاد عن الملذّات والشهوات في أكثر أوقاته، إلّا أنّه محبوب لدى من يفقهون سرّه وحكمته، وقد عايشوا أوقات العبادة والذكر فيه، ما جعلهم أشدّ التصاقاً وصحبة به، قال (عليه السلام): «السلام عليك غير كريه المصاحبة، ولا ذميم الملابسة، السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنّا دنس الخطيئات، السلام عليك غير مودَّع برماً، ولا متروك صيامه سأماً، السلام عليك من مطلوب قبل وقته، ومحزون عليه قبل فوته».
وغيرها العديد من الأوصاف الرائعة التي وصف فيها شهر رمضان المبارك، تأخذ بنا إلى أن نقرّ ونركن لعظمته ومكانته، وأن نتفكّر في ما ينبغي علينا بعد تصّرم أيّامه.
حفظ مكتسبات الشهر المبارك
وقد يقوم المرء بما عليه في هذا الشهر، من صوم وطاعة وابتعاد عن المحرّمات والموبقات، إلّا أنّ المهمّ بعد انتهاء هذا الشهر ألّا يضيع ما اكتسبه من فضائل وخصال وبركات، وأن يعمد جاهداً في حفظ ما اعتادت عليه نفسه من تلك الأعمال الصالحة، ولا يكون مصداقاً لقوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[5].
وممّا يساعد على تلك المكتسبات المداومة والاستمرار، فهي سبيل ناجع في ذلك، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «المداومةَ المداومة، فإنَّ الله لم يجعل لعمل المؤمنين غاية إلّا الموت»[6].
عيد الفطر
إنّ للعيد مفهوماً عميقاً في الإسلام، فهو ليس مجرّد يوم يُظهر فيه المرء زينته وفرحته، بل هو المكمّل العباديّ لما ابتدأه المؤمنون خلال الشهر الكريم، ليحدّد من خلاله مسار أيّامه القابلة، وهذا ما ندركه ممّا ورد عن المعصومين (عليهم السلام)، كما عن الإمام الرّضا (عليه السلام): «إنّما جُعل يوم الفطر العيد ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه، ويبرزون لله -عزّ وجلّ-، فيمجّدونه على ما منّ عليهم، فيكون يوم عيد، ويوم اجتماع، ويوم فطر، ويوم زكاة، ويوم رغبة، ويوم تضرّع»[7].
وهذا يعني، أنّ للعيد نكهة اجتماعيّة، قد تكون مناسبة لتحديد المسارات التي ينبغي للمجتمع المسلم أن يسير عليها، وإلّا ما معنى اجتماع المؤمنين في مثل هذا اليوم يا ترى.
مضافاً إلى ذلك، فإنّ للعيد نفحة عباديّة، بل إنّ أساس العيد، هو أن يكون عباديّاً، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّه صِيَامَه وشَكَرَ قِيَامَه، وكُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللَّه فِيه فَهُوَ عِيدٌ»[8].
من أعمال العيد[9]
1. التكبير بَعد صلاة الصبح وبَعد صلاة العيد (تكبيرات العيد).
2. إخراج زكاة الفطرة.
3. الغسل.
4. تحسين الثياب واستعمال الطّيب.
5. الإفطار أوّل النَّهار قَبلَ صلاة العيد، والأفضل أن يفطر عَلى التمر، أو عَلى شَيءٍ مِن الحلوى.
6. عدم الخروج لأداء صلاة العيد إِلّا بَعد طلوع الشمس.
[1] الصحيفة السجّاديّة، ص198.
[2] المصدر نفسه، ص198.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 4، ص68.
[5] سورة النحل، الآية 92.
[6] الشيخ النوريّ، مستدرك الوسائل، ج1، ص130.
[7] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص522.
[8] نهج البلاغة، ص551.
[9] الشيخ عبّاس القمّي، مفاتيح الجنان، ص387.