الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
رُوي أنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) خرج وهو آخذ بيد فاطمة، فقال: «من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة منّي، وهي قلبي، وهي روحي التي بين جنبيّ، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ الحديث عن السيّدة فاطمة (عليها السلام) يطول ويعظم، ولا يستطيع أيّ كاتب وخطيب، أن يختصر مقامها ومكانتها في بضع سطور هنا، أو خطبة هناك؛ ذلك أنّ لها مقاماً عند الباري سبحانه وتعالى، وعند رسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأوليائه الأطهار (عليهم السلام)، لا يدركه إلّا من كان في مقامهم.
هي المرأة التي وصفت بأجلّ الصفات وأرفعها، حتّى كانت بحقٍّ سيّدة نساء العالمين، لا لأنّها ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو زوج وليّ الله أمير المؤمنين وأمّ الحسن والحسين وجدّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وإن كان لذلك مكانة عظمى يفتخر به كلّ ذي لبّ وعقل، إنّما لما كانت عليه هي من صفات قلّ نظيرها، بارتباطها بالله وعلمها به سبحانه، وبارتباطها برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتّى كنّيّت بـ«أمّ أبيها»[2]، أو من خلال عفّتها وطهارتها وحكمتها وحنكتها، لتكون بذلك كلّه مصدر إلهام لعباد الله أجمعين، من نساء ورجال عبر السنين والقرون، يستلهمون من شخصها ما يستطيعون من خلاله تقويم ارتباطهم بالله، وكيف يكون المرء موالياً لدينه وأهله كما يحبّ ويرضى.
ويكفينا في معرفة مكانتها (عليها السلام)، أن نسترجع كلمات الله ورسوله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام أجمعين).
قال -سبحانه- مخاطباً رسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله): ﴿إنّا أعطيناك الكوثر﴾[3].
وقد أُوّل «الكوثر» بها (صلوات الله عليها).
وعنه (صلّى الله عليه وآله): «إنّ فاطمة بضعة منّي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن سرّها فقد سرّني، ومن غاظها فقد غاظني»[4].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سُئل عن فاطمة: لِمَ سمّيت زهراء؟ فقال: «لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض»[5].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه):
«انظروا إلى هذه السيّدة الجليلة في أيّ سنٍّ حازت على هذه الفضائل كلّها، في أيّ عمرٍ برزت فيها هذه التألّقات كلّها، في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20سنة، 25 سنة، بحسب اختلاف الروايات. وهذه الفضائل كلّها لا تحصل عبثاً، «امتحنكِ الله الّذي خلقكِ قبل أن يخلقك، فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة»، فإنّ الله -تعالى- قد امتحن زهراء الطهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النظام الإلهيّ نظام يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوباً بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتضحية الخاصّة (وهي من عبيده الخواصّ)، في سبيل الأهداف الإلهيّة؛ لذلك جعلها مركز فيوضاته»[6].
هذا وثمّة الكثير من الأحاديث الشريفة والمباركة تحكي فضلها ومكانتها (عليها السلام).
وممّا يشير إلى تلك المكانة العظيمة، ألقابها التي أُطلِقت عليها من قِبل أهل بيتها الأطهار (عليهم السلام)، ومن ألقابها (عليها السلام): اُمّ أبيها. فقيل: الاُمّ بمعنى الأصل والأصالة، فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) بأولادها الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ومواقفهم وفدائهم وتضحياتهم أعطوا الأصالة لرسالة أبيها (صلّى الله عليه وآله)، وفي ذلك يُقال: «الإسلام محمّديّ الحدوث وحسينيّ البقاء»، وكلّهم نور واحد، فأصبحوا بمنزلة الأصل في استمراريّة الرّسالة المحمّديّة.
جانب من حياتها الاجتماعيّة
عندما نتحدّث عن السيّدة فاطمة ومقامها، إنما نتحدّث عن امرأة جسّدت ما تؤمن به في قلبها وعقلها في سيرتها وحركتها، حتّى بان إيمانها وصفاتها الأخلاقيّة الحسنة، في أفعالها ومواقفها وعشرتها مع الآخرين من حولها.
ومن ذلك:
1. حياتها مع أبيها (صلّى الله عليه وآله)
كان الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يتعامل معها (عليها السلام) تعاملاً مميّزاً وخاصّاً، فقد كان يبدي لها كلّ مـظاهر الاحـترام والتقدير ويثني عليها في العديد مـن المـناسبات، وكـان لا يـدع فـرصة إلّا وينتهزها من أجـل إظـهار منزلتها ومقامها. فكانت إذا دخلت عليه، قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه[7].
وقد كانت من أحبّ النّاس إلى قلبه، إذ تقول عائشة: «أحبّ الناس إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) من النساء فاطمة، ومن الرّجال عليّ»[8].
2. حياتها الزوجيّة
فهي المرأة التي كانت تبذل جهدها في بيتها كأيّ امرأة أخرى، مع ما كان لها من مقام رفيع بين الناس أجمعين، ومن ذلك ما رُوي عنها في عملها المنزليّ، حيث لم تـكن تأنف من العمل فيه ككثيرات من النساء، «فقد استقت بالقربة حتّى أثّر ذلك في صدرها وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها. وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها وأوقدت النار تحت القـدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد»[9].
بل كانت خير امرأة تصبر على قلّة زاد زوجها، الذي كان يبيت في ليالٍ كثيرة على الطوى، وكانت فاطمة (عليها السلام) تشاركه في ذلك حتّى نزلت فيهم سورة «هل أتى».
بل وصل الأمر في بعض المرويّات أن يعيّرنّها نساء قريش على مظاهر الفقر التي عاشتها، حتّى بكت بكاءً شديداً لشدّة حساسيتها المرهفة ومشاعرها الرقيقة التي لم تتحمل تهكّم النساء وثرثرتهنّ.
وكما انعكس فقرها على سكنها وأثاث بيتها، والذي إن سمّي بالأثاث فإنّما ذلك من باب المسامحة لشدّة بساطته، وقدر رُوي أنّ الرّسول (صلّى الله عليه وآله) لمّا وضع أثاث بيت فاطمة بـين يـديه، رفع رأسه الى السماء، وقال: «اللّهمّ بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف!»[10].
ونجد حسن تأديب الرسول لابنته المباركة، إذ لم يترك خيراً يوصي به إلّا وكان يقدم عليه، فقد كان خير ناصح وموصٍ، من ذلك ما أوصاها به (صلّى الله عليه وآله) أن لا تسأل زوجها شيئاً، قـائلاً لهـا: «لا تـسألي ابن عمّك شيئاً، إن جاءك بشيء، وإلاّ فلا تسأليه»[11]. وكانت على الوصـيّة، لا تشتكي إليه جوعها وتعبها في أعمال المنزل، ولا رثّة ثيابها ولا ضـعة أثاث بيتها، كلّ ذلك رأفة بزوجها وزهداً بمتاع الدنيا الفانية.
أمّا علاقتها بزوجها، فيكفي لبيان ما كانت عليه من صلاح، ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): «فواللّه، ما أغـضبتها ولا أكـرهتها عـلى أمر حتّى قبضها اللّه عزّ وجلّ، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليـها فـتنكشف عـني الهموم والأحزان»[12].
3. أمومتها
أمّا وهي أمّ فقد كانت نِعمَ الأمّ المربّيّة، لا بالقول فحسب، بل بالفعل كذلك، إذ كانت بسلوكها تعطي دروساً لأبنائها أيّ طريق ينتهجون، ومن ذلك تهجّدها وتعبّدها بين يديّ الله تعالى، ومن ذلك ما روي عن الإمام الحسن (عليه السلام) إذ يقول: «رأيتُ أمّي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فـلم تـزل راكـعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنـفسها بشيء. فقلت لهـا: يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بُنيّ، الجار ثمّ الدار»[13].
فقد كان في هذا المشهد رسالتان، يتشرّبهما الطفل حتّى يركزا في ذهنه جيّداً، الأوّل: ذاك الاهتمام الحثيث بالعبادة بين يدي الله، والثاني: الاهتمام بالجار، وتلك المكانة التي ينبغي أن يضعها للمرء لحقّ الجيرة في ذهنه.
مقام السيّدة الزهراء (عليها السلام) يوم القيامة
أمّا يوم القيامة، فإنّ لها مقاماً يظهر مدى مكانتها عند الباري سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك يطلب المؤمنون الموالون شفاعتها في ذلك اليوم العظيم.
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إذا كان يوم القيامة، تُقبِل ابنتي فاطمة على ناقة من نوق الجنّة، مُدلجة الجنبين، خطامها من لؤلؤ رطب، قوائمها من الزمرّد الأخضر، ذنبها من المسك الأذفر، عيناه ياقوتتان حمراوان، عليها قبّة من نور، يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، داخلها عفو الله وخارجها رحمة الله، على رأسها تاج من نور، للتاج سبعون ركناً، كلّ ركن مرصّع بالدرّ والياقوت، يضيئ كما يضيئ الكوكب الدرّيّ في أفق السماء، وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام النّاقة، ينادي بأعلى صوته: غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة»[14].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص54.
[2] المصدر نفسه، ج43، ص19.
[3] سورة الكوثر، الآية 1.
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص165.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص12.
[6] من كلمة له (دام ظلّه).
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص25.
[8] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص111.
[9] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص82.
[10] المصدر نفسه، ج 43، ص130.
[11] المصدر نفسه، ج 43، ص31.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص134.
[13] المصدر نفسه، ج43، ص82.
[14] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص108.