الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كتم سرّه كانت الخيرة بيده، وكلّ حديث جاوز اثنين فشا»[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ لكتمان السرّ في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) حيّزاً كبيراً، وقد حثّوا وشجّعوا عليه، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أهمّيّته وضرورته، سواء أكان على المستوى الفرديّ والشخصيّ، أم الجماعيّ والعامّ.
من هنا، عُدّ كتمان السرّ فضيلة يتّصف بها المؤمن الفطن، الذي يحرص على ذلك، سواء أكان الأمر متعلّقاً بنفسه أم بغيره، ضماناً لحفظ مصلحته ومصلحتهم، ودفعاً للضرر عنه وعنهم.
وكلّما كان مضمون السرّ ذا خطورة وأهمّيّة، كلّما كان الكتمان أشدّ ضرورة، خاصّة إذا تعلّق بأعراض أو أمور عسكريّة وأمنيّة، وما شاكل.
سرّك وسرّ غيرك
عندما نتحدّث عن كتمان السرّ، فإنّما نقصد به شكلين:
الأوّل: السرّ الشخصيّ؛ أي ما يرتبط بالفرد نفسه، في أمور يكون هو عليها، أو يريد فعلها عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما حثَّت عليه أحاديث المعصومين (عليهم السلام) ودعَت إليه، كما لو كان مرتبطاً بأمور شخصيّة عائليّة أو غير ذلك، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض أصحابه: «لا تُطلِع صديقَك من سرّك إلّا على ما لو اطّلع عليه عدّوك لم يضرّك، فإنّ الصديقَ قد يكون عدوّاً يوماً»[2]، وعنه (عليه السلام): «سرّك من دمك، فلا يجرينّ من غير أوداجك»[3]، وكذلك عن الإمام عليّ (عليه السلام): «سِرُّك أسيرك، فإن أفشيتَه صُرتَ أسيرَه»[4].
وقد يكون الأمر مرتبطاً بعمل يسعى المرء في تنفيذه، كما عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود»[5]، وعن الإمام الجواد (عليه السلام): «إظهار الشيء قبل أن يستحكم، مفسدة له»[6].
وإنّ مرجعَ ضرورة الكتمان في مثل هذه الأمور، عدمُ الائتمان بعدم وجود حاقدين وحاسدين، يتأبّطون بغيرهم سوءاً وشرّاً، فيحسدونهم أو يحقدون عليهم ويقومون بتعطيل ما يودّون قضاءه من حوائج.
الثاني: سرّ الآخرين، وهو ما كان مرتبطاً بحياتهم الشخصيّة، أو بأمور جماعيّة، كما لو كان متعلّقاً بالمجاهدين وأماكن تواجدهم وغير ذلك من الشؤون العسكريّة والأمنيّة على سبيل المثال... فهذا أيضاً نجد له في أحاديث المعصومين (عليهم السلام) حيّزاً كبيراً.
ويدخل هذا الصنف من كتمان السرّ في الأصل تحت عنوان «الأمانة»؛ ذلك أنّ أسرار الآخرين إنّما هي أمانة بين يدي من يعرفها، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، وقد عُبّر عن بالمجالس، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «المجالس بالأمانة، وليس لأحدٍ أن يُحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا بإذنه، إلّا أن يكون ثقة أو ذِكراً له بخير»[7]، وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «كاتم السرِّ وفيٌّ أمين»[8].
فمن أُسِرّ له بشيء، فإنّما أُودِع أمانة، وهذا كما أنّه ينطبق على سرّ الفرد، كذلك ينطبق على سرّ الجماعة، خاصّة إذا كان الأمر متعلّقاً بأمن الناس والمجتمع، كأن يفشي أحدهم سرَّ عملٍ للمقاومة!
وقد ورد فضل كتمان سرّ الآخرين في الروايات، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «ثلاثة يستظلّون بظلّ عرش الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: رجل زوّج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سرّاً»[9].
قال الشاعر:
لا يكتمُ السرَّ إلّا مَنْ لهُ شرفٌ *** والسرُّ عندَ كرامِ الناسِ مكتومُ
السرُّ عندي في بيتٍ لهُ غَلَقٌ *** ضلَّتْ مفاتيحُهُ والبابُ مردومُ
وقد نُهي في المقابل عن إفشاء أسرار الآخرين، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من أذاع أمرنا ولم يكتمه، أذلّه الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلى النار!»[10].
كشف العيوب
إنّ من مصاديق كشف الأسرار كشفَ عيوب الآخرين، كأن يعلم المرء عيباً يتستّر عليه صاحبه، ولا يحبّ أن يعلم به أحد، فيقوم بفضحه، فهذا كما أنّه إفشاء لأسرار الآخرين وهو منهيّ عنه بذاته، كذلك هو كشف لعيوبهم، وهو أيضاً منهيّ عنه بذاته، عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لا تتّبعوا عورات المؤمنين؛ فإنّه من تتبّع عورات المؤمنين تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته فضحه، ولو في جوف بيته»[11].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من اطّلع من مؤمن على ذنب أو سيّئة فأفشى ذلك عليه، ولم يكتمها، ولم يستغفر الله له، كان عند الله كعاملها، وعليه وزر ذلك الذي أفشاه عليه، وكان مغفوراً لعاملها، وكان عقابه ما أفشى عليه في الدنيا مستور عليه في الآخرة»[12].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص380.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص767.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج72، ص71.
[4] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص285.
[5] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص316.
[6] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول، ص458.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص660.
[8] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص395.
[9] الشيخ الصدوق، الخصال، ص142.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص224.
[11] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ج2، ص288.
[12] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص32.