الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[ سورة آل عمران، الآية 31.].
أيّها الأحبّة،
لطالما يسعى المؤمن في حياته لنيل رضا الله -تعالى- وحبّه، ويبذل قصارى جهده في سبيل ذلك، حتّى يحيا حياته ويرتحل منها، وهو ممّن يحبّهم -سبحانه- ويرضى عنهم.
وإنّما هذا عند من أدرك فعلاً أنّ حبَّ الله للإنسان هو الضالّة الأولى التي ينبغي أن يسعى إليها في هذه الحياة، وأنّه كلّما علم بالله أكثر، وعاش في وجوده أكثر فأكثر، كلّما كان أحرص على ذلك من غيره.
العمل أساس الحبّ
من كان إلى ذلك ساعياً، فإنّه يضع نصبَ عينيه أنّ كسب حبّ الله -تعالى- إنّما يكون بالعمل والفعل، فليس هو مجرّد تعبير باللسان؛ لذلك فإنّ أولى الخطوات وأساسها في موجبات محبّة الله -تعالى- لعبده، إنّما تكون عبر العمل، وهذا ما نفقهه جيّداً من خلال آيات القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (عليهم السلام)، فعندما يقول الله -تعالى- عن لسان رسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وخطابه قومَه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، ندرك حينها أنّ الحبّ إنّما يُترجم بالسلوك والعمل، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه تمثّل قائلاً:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّهُ هذا محالٌ في الفعالِ بديعُ
لو كان حبُّكَ صادقاً لأطعتَهُ إنّ المُحبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيعُ[ الشيخ الصدوق، الأمالي، ص578.]
ولدى الإمام الصادق (عليه السلام) تفسير دقيق لمنشأ الحبّ الحقيقيّ لله تعالى، إذ يقول (عليه السلام): «نجوى العارفين تدور على ثلاثة أُصول: الخوف والرجاء والحبّ؛ فالخوف فرع العلم، والرجاء فرع اليقين، والحبّ فرع المعرفة؛ فدليل الخوف الهرب، ودليل الرجاء الطلب، ودليل الحبّ إيثار المحبوب على ما سواه، فإذا تحقّق العلم في الصدر خاف، فإذا كثر المرء في المعرفة خاف، وإذا صحّ الخوف هرب، وإذا هرب نجا، وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل، وإذا تمكّن من رؤية الفضل رجا، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب، وإذا وُفِّق للطلب وجد، وإذا تجلّى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبّة، وإذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب، وآثر المحبوب على ما سواه، وباشر أوامره واجتنب نواهيه، واختارهما على كلّ شيء غيرهما، وإذا استقام على بساط الأنس بالمحبوب مع أداء أوامره واجتناب نواهيه، وصل إلى روح المناجاة والقرب، ومثال هذه الأصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة، فمن دخل الحرم أمِن من الخلق، ومن دخل المسجد أمِنت جوارحه أن يستعملها في المعصية، ومن دخل الكعبة أمِن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله.
فانظر أيّها المؤمن، فإن كانت حالتُك حالةً ترضاها لحلول الموت، فاشكر الله على توفيقه وعصمته، وإن تكن الأخرى فانتقل عنها بصحّة العزيمة، واندم على ما سلف من عمرك في الغفلة، واستعِن بالله على تطهير الظاهر من الذنوب، وتنظيف الباطن من العيوب، واقطع زيادة الغفلة عن نفسك، واطفِ نار الشهوة من نفسك»[ العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج67، ص22.].
حبّ الله أمر تفاعليّ
ونقصد بذلك أنّ من سعى فعلاً لكسب محبّة الله، فلا بدّ من أن يبادر هو كذلك في إظهار حبّه لله، مضافاً إلى ما تقدّم بأنّ الحبّ إنّما يكون بالعمل، رُوي أنّه ممّا أوحى الله -تعالى- إلى نبيّه داوود (عليه السلام): «يا داوود، أبلغ أهل أرضي أنّي حبيب من أحبّني، وجليس من جالسني، ومؤنسٌ لمن أنس بذكري، وصاحبٌ لمن صاحبني، ومختارٌ لمن اختارني، ومطيعٌ لمن أطاعني، ما أحبّني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلّا قبلته لنفسي، وأحببته حبّاً لا يتقدّمه أحد من خلقي. من طلبني بالحقّ وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني؛ فارفضوا -يا أهل الأرض- ما أنتم عليه من غرورها، وهلمّوا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي، وأنسوا بي أُؤانسكم، وأسارع إلى محبّتكم»[ المصدر نفسه، ج67، ص26.].
ما يورِث حبّ الله
أيّها الأحبّة،
إنّ موجبات حبّ الله لعباده كثيرة ومتعدّدة، وقد أرشدتنا إليها آيات القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (علهم السلام)، نقتصر منها على الآتي:
1. بغض الدنيا
عن النبيّ عيسى (عليه السلام)، لمّا سُئل عن عمل واحد يورث محبّة الله: «أبغِضوا الدنيا، يحببكم الله»[ المصدر نفسه، ج14، ص328.].
وعنه (عليه السلام): «إِذَا تَخَلَّى الْمُؤْمِنُ مِنَ الدُّنْيَا سَمَا ووَجَدَ حَلَاوَةَ حُبِّ اللَّه وكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا كَأَنَّه قَدْ خُولِطَ، وإِنَّمَا خَالَطَ الْقَوْمَ حَلَاوَةُ حُبِّ اللَّه فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِه»[ الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص130.].
2. التزام الفرائض
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال الله تبارك وتعالى: مَا تَحَبَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِأَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه»[ المصدر نفسه، ج2، ص82.].
3. الحلم
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «وجبت محبّة الله على من أُغضِب فحلم»[ المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج3، ص131.].
4. ذكر الموت
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَحَبَّه اللَّه»[ الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص122.].
5. الإحسان
قال سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[ سورة البقرة، الآية 195.].
6. التوبة
قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[ سورة البقرة، الآية 222.].
7. التقوى
قال تعالى: ﴿بلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[ سورة آل عمران، الآية 76.].
8. التوكّل
قال عزّ وجلّ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[ سورة آل عمران، الآية 159.].
9. الجهاد
قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[ سورة الصف، الآية 4.].
10. قيام الليل
عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في ما أوحى الله -تعالى- إلى نبيّه موسى (عليه السلام): «كذب من زعم أنّه يحبّني فإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه؟! ها أنا ذا يابن عمران مطّلع على أحبّائي، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم، ومثّلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلّموني عن الحضور»[ الشيخ الصدوق، الأمالي، ص438.].
نجد أنّ مثل هذه الأعمال والصفات، التي ما إن يتحلّى بها المرء، فإنّها تودي إلى كسب حبّ الله تعالى، هذا وثمّة العديد من الأعمال التي توطّد علاقة الإنسان بربّه، وما على الإنسان في ذلك إلّا أن يتحرّى الأعمال الطيّبة والحسنة والالتزام بها في قوله وفعله حتّى يصل إلى هذا المقام بين يدي الله سبحانه.