الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «ألاَ إنّ رجب شهر الله الأصمّ، وهو شهر عظيم؛ وإنّما سُمّي الأصمَّ لأنّه لا يقارنه شهر من الشهور حرمةً وفضلاً عند الله تبارك وتعالى. وكان أهلُ الجاهليّة يعظّمونه في جاهليّتها، فلمّا جاء الإسلام لم يَزدَد إلّا تعظيماً وفضلاً»[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ لشهر رجب مكانةً رفيعةً وعظيمةً في أحاديث النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)؛ وذلك لما فيه من فضل ومقام عند الباري سبحانه وتعالى، حتّى جعله من الشهور التي ميّزها وخصّصها بالكثير من الأعمال والآداب، التي ما إن يلتزم بها المرء ويمتثلها، فإنّما يقوم بما يقرّبه إلى الله تعالى زلفى.
وقد كان هذا الشهر معروفاً في أيّام الجاهليّة، يرونه شهراً عظيماً، ويأملون فيه قضاء حوائجهم، وهكذا أمضي في الإسلام، حتّى سمّي بشهر أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والذي كانت فيه ولادته المباركة التي عمّ فيها الخير والبركة، عنه (عليه السلام) أنّه قال: «رجب شهري، وشعبان شهر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وشهر رمضان شهر الله عزّ وجلّ»[2].
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: «إنّ الله -تبارك وتعالى- اختار من الكلام أربعة، ومن الملائكة أربعة، ومن الأنبياء أربعة، ومن الصادقين [الصدّيقين] أربعة، ومن الشهداء أربعة، ومن النساء أربعاً، ومن الأيّام أربعاً، ومن البِقاع أربعاً...
فأمّا خيرته من الكلام، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر[...]؛ وأمّا خيرته من الملائكة، فجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل؛ وأمّا خيرته من الأنبياء، فاختار إبراهيمَ خليلاً، وموسى كليماً، وعيسى رُوحاً، ومحمّداً حبيباً؛ وأمّا خيرته من الصدّيقين، فيوسفُ الصدّيق، وحبيب النجّار، وعليّ بن أبي طالب؛ وأمّا خيرته من الشهداء، فيحيى بن زكريا، وجِرجِيس النبيّ، وحمزة بن عبدالمطّلب، وجعفر الطيّار؛ وأمّا خيرته من النساء، فمريم بنت عمران، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، وفاطمة الزهراء، وخديجة بنت خُوَيلد؛ وأمّا خيرته من الشهور، فرَجَب، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم... وهي الأربع الحُرُم؛ وأمّا خيرته من الأيّام، فيوم الفطر، ويوم عرفة، ويوم الأضحى ويوم الجمعة»[3].
فضل شهر رجب
عن الإمام أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «رجبٌ شهرٌ في الجنّة، أشدُّ بَياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، مَن صام يوماً من رجب سقاهُ اللهُ -عزّ وجلّ- من ذلك النهر»[4].
شهر الرحمة الإلهيّة
رُوي عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّ الله -تعالى- نَصَب في السماء السابعة مَلَكاً يُقال له «الداعي»... فإذا دخل شهر رجب، ينادي ذلك الملَكُ كلّ ليلة منه إلى الصباح:
«طُوبى للذاكرين! طوبى للطائعين! يقول الله تعالى: أنا جليسُ مَن جالَسَني، ومطيعُ مَن أطاعني، وغافرُ مَن استَغفَرَني. الشهر شهري، والعبد عبدي، والرحمة رحمتي، فمَن دعاني في هذا الشهر أجَبتُه، ومن سألني أعطيتُه، ومن استهداني هَدَيتُه، وجعلتُ هذا الشهر حبلاً بيني وبين عبادي، فمن اعتصم به وصَلَ إليّ»[5].
أعمال شهر رجب ومراقباته
ثمّة العديد من الأعمال المستحبّة اختصّت بها أيّام هذا الشهر المبارك، وقد ذكرت في كتب الأحاديث والأدعية بشكل تفصيليّ، نقتصر منها على الآتي:
1. الصلاة
ورد عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «يا سلمان، ألا أعلّمك شيئاً من غرائب الكنز... إذا كان أوّل يوم من رجب تصلّي عشر ركعات، كلّ ركعتين بتسليمة، تقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و(قل هو الله أحد) ثلاث مرّات، غفر الله لك ذنوبك كلّها من اليوم الذي جرى عليك القلم إلى هذه الليلة، ووقاك الله فتنة القبر وعذاب يوم القيامة، وصرف عنك الجذام والمرض وذات الجنب (التهابات وقروح الرئة)»[6].
2. الصوم
عن علي بن سالم، عن أبيه، قال: دخلتُ على الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في رجب، وقد بقيَت منه أيّام، فلمّا نظر إليّ، قال لي: «يا سالم، هل صمتَ في هذا الشهر شيئاً؟» قلتُ: لا والله يابن رسول الله، فقال لي: «لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه إلا الله عزّ وجلّ، إنّ هذا شهر قد فضّله الله، وعظّم حرمته، وأوجب للصائم فيه كرامته»[7].
صيام الأيّام البيض
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من صام الأيام البيض من رجب، كتب الله له بكلّ يوم صيام سنة وقيامها، ووقف يوم القيامة موقف الآمنين»[8].
3. الصدقة والتسبيح لمن عجز عن الصيام
أمّا من لم يستطع الصيام، فقد ورد فيه عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأنّه يعمد إلى الصدقة، ومن لم يستطع الصدقة فيعمد إلى تسبيح الله تعالى، عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه سُئل: يا نبيّ الله، فمن عجز عن صيام رجب لضعف أو علّة كانت به، أو امرأة غير طاهرة، تصنع ماذا لتنال ما وصفت؟ قال (صلّى الله عليه وآله): «تتصدّق عن كلّ يوم برغيف عن المساكين، والذي نفسي بيده إنّه إذا تصدّق بهذه الصدقة كلّ يوم ينال ما وصفتُ وأكثر؛ لأنّه لو اجتمع جميع الخلائق كلّهم من أهل السماوات والأرض على أن يقدروا قدر ثوابه، ما بلغوا عُشر ما يصيب في الجنان من الفضائل والدرجات»، قيل: فمن لم يقدر على هذه الصفة، يصنع ماذا لينال ما وصفت؟ قال: «يسبّح الله -تعالى- في كلّ يوم من رجب إلى تمام ثلاثين بهذا التسبيح مئة مرّة: سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلّا له، سبحان الأعزّ الأكرم، سبحان من لبس العزّ وهو له أهل»[9].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فِي رَجَبٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ولَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر»[10].
من خصائص شهر رجب
ممّا يمتاز به شهر رجب تلك المناسبات الجليلة والعظيمة التي تتخلّل أيّامه المباركة، كولادة عدد من الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، الإمام عليّ والإمام الباقر والإمام الهادي والإمام الجواد (عليهم السلام)، وكذلك البعثة النبويّة الشريفة، التي غيّرت معالم المجتمع البشريّ وأضاءت على البشريّة نور الحقّ المبين.
وأيضاً فضائل بعض الليالي التي اختصّت بهذا الشهر المبارك، ما يجعله محطّة عظمى للتوجّه إلى الباري سبحانه وتعالى، ورتق ما قصّر به المرء بين يديه سبحانه.
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص637.
[2] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص797.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص48.
[4] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص23.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج95، ص377.
[6] السيّد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج3، ص198.
[7] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج 10، ص475.
[8] المصدر نفسه، ج10، ص482.
[9] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص817.
[10] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص635.