الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[1].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَه اللَّه لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه، وهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللَّه الْحَصِينَةُ وجُنَّتُه الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَه رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه اللَّه ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ، وضُرِبَ عَلَى قَلْبِه بِالإِسْهَابِ، وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْه بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وسِيمَ الْخَسْفَ ومُنِعَ النَّصَفَ»[2].
أيّها الأحبّة،
نعيش في هذه الأيّام مناسبات جليلة ومباركة، منها انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران على يد الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) وثلّة من العلماء والمؤمنين الذين بذلوا في سبيل تأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة على خطى الإسلام المحمّديّ الأصيل ونهجه، وقد أفنوا بذلك عمراً طويلاً من حكم الشاهنشاهيّة المستبدّة بحرّيّة الشعب الإيرانيّ، ومستطيلة عليه وعلى الإسلام وأحكام الإسلام، حتّى وصل بهم إلى منع ارتداء الحجاب للنساء العفيفات المؤمنات، فأُجبِرن على البقاء في بيوتهنّ، حفظاً لأنفسهنّ من القتل والتنكيل والاضطهاد!
إنّ مشاهد الحكم الشاهنشاهيّ في إيران مثيل حكم المستبدّين على مرّ التاريخ، منذ بدء الخليقة حتّى أيّامنا هذه، حيث الظلم والاضطهاد وهضم حقوق الإنسان، مضافاً إلى مقارعة الرسالات السماويّة التي تدعو إلى الانصاف والعدل وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، وهذا ما لا يتناغم مع مادّة استمرار العروش الطاغية وبقائها، ما يجعلهم يواجهون الدين وعلماءه، بالملاحقة والتضييق والتهجير والنفي.
هذا كلّه، زرع في نفس الإمام الخمينيّ، المشبعة بالمبادئ والقيم الإسلاميّة، روحَ الثورة والقيام ضدّ هذا الحكم الظالم؛ فابتدأ منذ زمن بعيد بتوجيه سهام المواجهة مع حكم الشاه، فكتب وخطب وأرشد الشباب من حوله، إلى ضرورة التحرّك والقيام ضدّ هذا الحكم، حتّى بدأ جلاوزته بملاحقته وسجنه، ومن ثمّ نفيه إلى خارج البلاد.
الإسلام والشعب محورا ثورة الإمام (قُدِّس سرّه)
كان الإسلام ركن انطلاقة الإمام الخمينيّ، وعليه مستنده في كلّ خطوة خطاها في حركته ضدّ الشاه، مضافاً إلى حرصه على حاضر الشعب ومستقبله، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «يتلّخص محور كافّة المبادئ والقواعد في مشروع إمامنا الكبير في أمرين: الإسلام والشعب، وحتّى الإيمان بالشعب استقاه إمامنا الكبير من الإسلام. الإسلام هو الذي يشدّد على حقّ الشعوب وأهمّيّة أصواتها وتأثير جهادها وتواجدها؛ لذلك جعل الإمام الجليل الإسلام والشعب محور مشروعه... جعل المحور عظمة الإسلام والشعب، واقتدار الإسلام، واقتدار الشعب، وصلابة الإسلام، وصلابة الجماهير»[3].
مقارعة الاستكبار
لو نظرنا إلى ثورة الإمام الخمينيّ، لوجدنا توجيهات الإسلام وإرشاداته حاضرة في مبادئها وسيرها وسلوكها وأهدافها؛ ولذلك حقّ اعتبارها ثورة إسلاميّة، ذلك أنّها تبتني على مفاهيم الإسلام الجليلة، لا بالقول فحسب، إنّما بالفعل والسلوك.
وقد كان من أبرز أهداف الثورة الإسلاميّة مقارعةُ المستكبرين في العالم، ومن يمثّلهم في الشعوب، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الأهداف الكبرى التي عرضها الإمام الراحل هي: مكافحة الاستكبار العالميّ، والحفاظ على الاعتدال الأكيد على منهج «لا شرقيّة ولا غربيّة»، والإصرار الكبير على الاستقلال الحقيقيّ والشامل للشعب (الاكتفاء الذاتيّ بالمعنى التامّ للكلمة)، والتشديد الأكيد واللامتناهي على حفظ المبادئ الدينيّة والشرعيّة والفقهيّة الإسلاميّة، وتحقيق الوحدة والتضامن، والاهتمام بالشعوب المسلمة والمظلومة في العالم، وإعزاز الإسلام والشعوب المسلمة وعدم الفزع من القوى العالميّة الكبرى، وتوفير القسط والعدل في المجتمع الإسلاميّ، والدعم السخيّ الدائم للمستضعفين والمحرومين والطبقات الضعيفة من المجتمع وضرورة الاهتمام بها. كلّنا كان شاهداً على أنّ الإمام واصل مسيرته في هذه الخطوط بكلّ إصرار وبلا أيّ تردّد»[4].
التقوى مبدأ أساس من مبادئ الثورة
ارتكزت الثورة الإسلاميّة على مبادئ ومرتكزات متعدّدة، وهو ما جعل خطواتها ثابتة غير متزلزلة، دائمة مستمرّة غير آنيّة، ومن أبرز تلك المبادئ مبدأ التقوى، وهو الامتناع عن الحرام أو ما يُسهم في الوقوع بالحرام، وبمعنى آخر تحصين الإنسان من الوقوع في الحرام، وقد بيّنها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك»[5].
لقد كانت التقوى منشأ حركة الإمام الخمينيّ، إذ كان يراها أمراً عامّاً لا يقتصر فقط على بعض الأمور الفرديّة، إنّما أيضاً لا بدّ من أن تكون شاملة لحركة الإنسان الاجتماعيّة والسياسيّة، وهذا ما جعل الثورة مبتنية على ضوابط الإسلام وحدوده، وجعلها أكثر التزاماً لتحقيق مفاهيم هذا الدين الحنيف وإرشاداته، مضافاً إلى أنّها أشدّ ملازمة لهموم الناس وتطلّعاتهم.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «التقوى الاجتماعيّة أو التقوى الإسلاميّة المرتبطة بالمجتمع والاجتماع الإنسانيّ، هي أن نبذل جهدنا في سبيل تحقيق الأمور التي طالبنا الإسلام بها»[6].
ويقول (دام ظلّه): «وأيّ فصل بين الدين والشأن العامّ هو خلاف هذه التقوى الاجتماعيّة. فلو تحقّقت التقوى الدينيّة، ستتحقّق التقوى السياسيّة إلى جانبها أيضًا. والتقوى السياسيّة تعني ابتعاد المرء عن المزالق التي يستطيع العدوّ استغلالها»[7].
ثقافة الشهادة في سبيل الله
لم تكن أبعاد الثورة الإسلاميّة مقتصرة على الأحداث التي جرت في وقت محدّد وبقعة معيّنة، إنّما كان لهذه الثورة تردّدات على الصعيد الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ في بقاع أخرى من العالم، خاصّة العالم الإسلاميّ.
ومن تلك التردّدات الإيجابيّة التي تُعدّ صدى للثورة الإسلاميّة في إيران، بزوغ الحركات الثوريّة والمقاومة للمحتلّين، كالمقاومة الإسلاميّة في لبنان، إذ ألهمت الثورة الإسلاميّة وشخصيّة الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) وإرشاداته الغيارى على حمل السلاح ومقاومة الصهاينة المحتلّين، وبزغ منهم قادة عظماء، حملوا نهج الإمام الخمينيّ في مقاومتهم، وسلكوا مسلكه في الحرص على الإسلام والمسلمين، حتّى استشهدوا في أرض الجهاد، أمثال السيّد عبّاس الموسويّ والشيخ راغب حرب والحاج عماد مغنيّة (رضوان الله عليهم)، ما جعلهم أيقونة يستلهم منها شباب الأمّة روحَ الإرادة والجهاد.
وقد لبّى هؤلاء الأبطال، دعوة الباري سبحانه وتعالى في الجهاد، حتى نالوا الشهادة بين يديه، وهي من أرفع أوسمة العطاء في هذه الدنيا بين يديّ الله سبحانه.
ويكفينا بياناً لفضل الجهاد في سبيل الله قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[8].
وفي مقام الشهداء: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾[9].
في الختام، نبارك للإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله فرجه) والإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) والأمّة الإسلاميّة جمعاء، ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الثالث عشر من شهر رجب، والإمام الجواد (عليه السلام) في العاشر منه.
[1] سورة محمّد، الآية 7.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، ص69.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه) في الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، بتاريخ 04/06/2003م.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه) في مراسم بيعة رئيس الوزراء وهيئة الحكومة، بتاريخ 06/06/1989م.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج67، ص285.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه) في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، بتاريخ 03/06/2016م.
[7] المصدر نفسه.
[8] سورة النساء، الآية 95.
[9] سورة الحديد، الآية 19.