الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعلموا أنّ ما كُلِّفتم به يسير، وأنّ ثوابه كثير، ولو لم يكن في ما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقابٌ يُخاف، لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه»[1].
أيّها الأحبّة،
يتعرّض الإنسان في هذه الدنيا إلى امتحانات كثيرة ومتعدّدة، تارةً تكون على شكل مصيبة، وتارةً على شكل موقف وقرار، وأخرى على شكل فتنة، ربّما تكون في المال أو الأولاد أو السلطة وغير ذلك.
ومن أبرز ما يُمتحن به الإنسان، هو ما يستلزم اتّخاذ موقف ما، سواءٌ أكان متعلّقاً بمسارٍ سياسيّ، أم بمسارٍ آخر في حياته.
وهذا في الواقع امتحان كبير، قد يزلّ فيه من ليس لديه مبادئ ثابتة وإيمان عميق بمنهج الإسلام ومصلحة الأمّة.
فأولئك الذين لا يقيمون لحرمة الإسلام والأمّة الإسلاميّة اعتباراً في قلوبهم وعقولهم، قد يصل بهم الحال إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ الغاصب، بل ربّما يصل بهم الحال إلى التباهي بهذا التطبيع!
وأولئك الذين يقفون ضدّ المجاهدين الذين يقاتلون الكيان الصهيونيّ ومن يدور في فلكه ممّن يريدون العبث بالأمّة والإفساد في البلاد، فهؤلاء أيضاً، إنّما سقطوا في الامتحان؛ ذلك أنّهم خالفوا ما يجب عليهم من تكليفٍ في مناصرة الأمّة والرسالة ومجابهة أعدائها.
فالتكليف في الواقع، أعمّ ممّا نتصوّر، بأنّه مجرّد حكم شرعيّ متعلّق بالصلاة أو الصوم أو الحجّ، وغير ذلك من الفرائض؛ فهو يشمل كلّ ما يطرأ على الإنسان ويستوجب عليه اتّخاذ موقفٍ منه، هل يفعل كذا أو لا يفعل؟
من هنا، تنشأ أهمّيّة الوعي والبصيرة عند الإنسان، كي يدرك جيّداً ما الذي يتوجّب عليه فعله، مضافاً إلى صقل النفس بالأخلاقيّات الحسنة التي تُسهِم في الثبات وعدم الانزلاق عند المغريات والمخاطر.
من يشخّص التكليف؟
إنّ أولى الناس بتحديد التكاليف الأعلم بالله ودينه، ألا وهم النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، قال تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[2].
وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾[3].
ويأتي من بعدهم العلماء والمراجع الذين أُوكِلت إليهم مهمّة توجيه الناس بما يتوافق مع أحكام الدين ومبادئه، وقد أعطوا الحجّة في ذلك، عن الإمام المهديّ (عليه السلام): «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»[4].
ويأتي بعد ذلك المكلّفون أنفسهم، إذ يستندون في ما يتّخذونه من موقف على مبادئ الإسلام وروحه.
الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) وأداء التكليف
من النماذج الرائدة في تاريخنا المعاصر في ما يتعلّق بالتكليف، الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه)، فهو مثال يُحتذى به في ذلك، إذ قام بما قام به بناءً على نظرته الإسلاميّة الشاملة لأشكال التكليف كلّها، ومنها الموقف السياسيّ الذي يتناغم مع الثقافة الإسلاميّة ومصلحة المسلمين، من أنظمة الحكم المستبدّة والعميلة للاستكبار العالميّ، فكان يرى أنّ نظام الشاه نظامٌ مناهض لثقافة الإسلام، ولا بدّ من اجتثاثه والتخلّص منه. وقد عَدَّ مواجهة الشاه وأزلامه وداعميه تكليفاً أُلقي على عاتقه، وأُلقي على من كان قادراً على المواجهة بأيّ شكل من أشكال المواجهة، ما أسهم في استنهاض فئات الشعب الإيرانيّ كلّها.
وله في التكليف أقوال متعدّدة، نشير إليها ضمن النقاط الآتية:
1. قوانين الإسلام كافية لتحديد تكليف الإنسان
يقول (قُدِّس سرّه): «حدّد الإسلام التكليف في كلّ شيء، ووضع القوانين لكلّ شيء، ولا حاجة بالمسلمين لتقليد أحد، أو اتّباعه في قوانينه».
2. التكليف أمانة
يقول (قُدِّس سرّه): «التكاليف الإلهيّة هي أمانات الله».
3. أداء التكليف هو الأهمّ
يقول (قُدِّس سرّه): «ليس مهمّاً عندي أين أكون، المهمّ هو العمل بالتكليف الإلهيّ، والمهمّ هو مصالح الإسلام والمسلمين العليا».
السيّدة زينب (عليها السلام) وأداء التكليف
إنّ السيّدة زينب (عليه السلام) -ونحن في أيّام رحيلها عن هذه الدنيا في الخامس عشر من شهر رجب، سنة 62 للهجرة- من أعظم ما يمكن أن يُذكر في التزام التكليف وأدائه، بل إنّها التزمت تكليفاً ثقيلاً، فكانت صابرةً محتسبةً، ترى بعين الله.
لقد أدركت واجباتها جيّداً مع ما عاشته من ظروف صعبة تحتاج في مواجهتها إلى قلب شديد ورأي سديد، وقد أفلحت بذلك؛ أدركت -وهي على إيمان لا يتزلزل- كيف تخرج مع أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، لتكون في ركبه تجاه الكوفة، ثمّ أدركت كيف ينبغي لها أن تحفظ سليل الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، فواكبته في مرضه، ولازمته، وحمته من القتل.
وهكذا أيضاً عندما وقفت في وجه يزيد الطاغية في قصر الشام، حيث ألّبت الرأي العامّ، وأظهرت الحقّ وأهله، مع صعوبة الموقف الذي كانت فيه (عليها السلام).
من هنا، ندرك أنّ التكليف، قد يكون أمراً طارئاً على الإنسان، فهو الذي يشخّص أحياناً واجباته تجاه دينه وأهله، فما يراه في مصلحة الإسلام والمسلمين يُقدم عليه، بل يقاتل من أجله، وما يراه مسيئاً للإسلام وضارّاً به وبأهله، يبتعد عنه، بل يواجهه بكلّ صلابة وشدّة.
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ج3، ص80.
[2] سورة النساء، الآية 59.
[3] سورة الحشر، الآية 7.
[4]الفاضل الهنديّ، كشف اللثام، ج10، ص29.