الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾[1].
أيّها الأحبّة،
للمساجد في الإسلام أهمّيّة عظمى، لما لها من آثار جليلة في نشر الإسلام والآداب الطيّبة والأخلاق الحسنة، حيث يجتمع فيها المؤمنون لرفع اسم الله، وتعلّم أحكامه والصلاة والدعاء والتهجّد بين يديه، وشدّ أواصر الأخوّة والمحبّة بينهم. ولأهمّيّتها الكبرى، فقد نسبها الله -تعالى- إليه، تدليلاً على تلك العظمة التي تكتنفها، إذ يقول سبحانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾.
فضل المساجد والصلاة فيها
لو نظرنا في كلام المعصومين (عليهم السلام)، لوجدنا عدداً كبيراً من أحاديثهم المطهّرة، تبرز وتؤكّد فضل المساجد وأهمّيّتها، على صعيد بناء الشخصيّة الإسلاميّة خاصّة والمجتمع عامّة، ومن ذلك ما ورد عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض»[2].
وعنه (صلّى الله عليه وآله) لجبرائيل (عليه السلام): «يا جبرائيل، أيّ البقاع أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: المساجد، وأحبّ أهلها إلى الله أوّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها»[3].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مكتوب في التوراة أنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبدٍ تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي»[4].
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) لولده زيد الشهيد: «يا بُنيّ... المساجد بيوت الله، فمن سعى إليها، فقد سعى إلى الله، وقَصَدَ إليه، والمصلّي ما دام في صلاته، فهو واقف بين يدي الله جلّ جلالـه، [...] وإنّ لله -تعالى- بقاعاً في سماواته، فمن عُرج به إلى بقعة منها، فقد عُرج به إليه، ألا تسمع الله -عزّ وجلّ- يقول: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾، ويقول في قصّة عيسى (عليه السلام): ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾»[5].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من مشى إلى المسجد، لم يضع رجلاً على رطبٍ ولا يابسٍ، إلّا سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة»[6].
ذمّ ترك الصلاة في المسجد
في قِبال الحثّ على زيارة المساجد، أظهرت بعض الأحاديث ذمّ هجرانها وعدم الصلاة فيها، عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «لا صلاةَ لمن لم يصلِّ في المسجد مع المسلمين، إلّا من علّة»[7].
وعنه (صلّى الله عليه وآله): «وأمّا إذا سُئِلت عمّن لا يشهد الجماعة، فقُل: لا أعرفه»[8].
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ نفي الصلاة في مثل هذه الأحاديث لا يعني بطلانها، إنّما يعني نفي كمالها، فالصلاة في المساجد طبقاً لهذه الأحاديث الشريفة أكمل وأفضل.
الانقطاع عن المساجد
من أكثر الأمور الخطيرة التي ينبغي أن يتنبّه إليها المؤمنون الجفاء عن المساجد والانقطاع عنها، لما لذلك من آثار سيّئة، سواءٌ أكان على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعة، وبمقدار أهمّيّة زيارة المساجد يكون مقدار خطورة الانقطاع عنها وهجرانها.
فهجرة المساجد تعني الحرمان من تلك البركات المعنويّة التي يمكن أن يتلقّاها المؤمنون في بيوت الله، وكذلك الحرمان من الوصال مع المؤمنين ونسج روح المحبّة والإلفة بين أكبر عدد ممكن منهم، خاصّة في القرى والبلدات والأحياء، حيث يحتاج فيها الناس عادة إلى الالتقاء والتكاتف فيما بينهم.
فالمسجد يوفّر لهم تلك الفرصة، ويضفي عليهم روح الأخوّة الإيمانيّة، بل يؤثّر لقاؤهم في المسجد على نبذ الأحقاد وأشكال الجفاء التي قد تكون بين أبناء المنطقة نفسها، ما يُسهم في تذليل العوائق بينهم.
ونلاحظ أيضاً أنّ روّاد المساجد في الأغلب، يكونون أكثر إلماماً بأحكام الإسلام، وأشدّ التصاقاً بمبادئه ومفاهيمه، فإنّ الحضور في المساجد، في هذه الأمكنة المباركة بوجود ملائكة الله، واستماع الكلم الطيّب فيها، والدعاء فيها بين يدي الله تعالى، يُضفي على الإنسان سمة الشخصيّة الإسلاميّة الملتزمة؛ لذا فقد ورد ذمّ تركها والانقطاع عنها، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «شكت المساجد إلى الله -تعالى- الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله -عزّ وجلّ- إليها: وعزّتي وجلالي، لا قبلتُ لهم صلاة واحدة، ولا أظهرتُ لهم في الناس عدالة، ولا نالتهم رحمتي، ولا جاوروني في جنّتي»[9].
وعنه (عليه السلام): «ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يُصلِّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف مُعلَّق قد وقع عليه غبار لا يُقرأ فيه»[10].
فوائد زيارة المساجد وبركاتها
لزيارة المساجد وارتيادها فوائد وبركات جمّة على صعيد الحياة الدنيا والآخرة:
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستظرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً[11]«.
1. أخ في الله
عن الإمام الصادق (عليه السلام) في فضل اتّخاذ الإخوة في الله: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما استفاد امرؤ مسلمٌ فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله[12]«.
2. تعلّم الصلاة وآدابها
رويَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دخل المسجد، فنظر إلى أنس بن مالك يُصلّي وينظر حوله، فقال له: «يا أنس، صلِّ صلاة مودّع ترى أنّك لا تصلّي بعدها صلاة أبداً، اضرب ببصرك موضع سجودك، لا تعرف مَن عن يمينك ولا مَن عن شمالك، واعلم أنّك بين يدي من يراك ولا تراه[13]«.
وهكذا هو حال المؤمنين المصلّين في المسجد، إذ يعلّم بعضهم بعضاً بشكل مباشر أو غير مباشر.
3. الملائكة تفتقد روّاد المساجد
عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ للمساجد أوتاداً، الملائكة جلساؤهم، إذا غابوا افتقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم[14]«.
4. يُظلّهم الله بظلّه
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: ... ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه[15]«.
آداب المساجد
إنّ للمساجد حرمات وآداب لا بدّ من مراعاتها، منها:
1. السكينة والوقار
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا قمت إلى الصلاة إن شاء الله، فأتِها سعياً، ولتكن عليك السكينة والوقار»[16].
2. تجنيبها النجاسة
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «جنّبوا مساجدكم النجاسة»[17].
3. عدم البيع واللغو ورفع الأصوات
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد سأله أبو ذر عن كيفيّة عمارة المساجد، فقال: «لا تُرفع فيها الأصوات، ولا يُخاض فيها بالباطل، ولا يُشترى فيها ولا يُباع، واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلّا نفسك»[18].
4. عدم الغيبة
عنه (صلّى الله عليه وآله): «الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة، ما لم يُحدِث»، قيل: يا رسول الله، وما الحدث؟ قال: «الاغتياب»[19].
5. عدم تناول الأطعمة ذات الرائحة
عنه (صلّى الله عليه وآله): «من أكل هذه البقلة المنتنة [يعني الثوم] فلا يقرب مسجدنا، فأمّا من أكله ولم يأتِ المسجد فلا بأس»[20].
[1] سورة الجنّ، الآية 18.
[2] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص28.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص489.
[4] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص27.
[5] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص133.
[6] الفيض الكاشانيّ، الوافي، ج7، ص517.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج3، ص321.
[8] المصدر نفسه، ج85، ص5.
[9] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص 696.
[10] الشيخ الكلينيّ، ج2، ص613.
[11] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص474.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 71، ص275.
[13] المصدر نفسه، ج81، ص264.
[14] المصدر نفسه، ج80، ص373.
[15] الشيخ الصدوق، الخصال، ص343.
[16] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج5، ص203.
[17] المصدر نفسه، ج3، ص504.
[18] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج80، ص370.
[19] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص506.
[20] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج63، ص247.