الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[1].
أيّها الأحبّة،
وضع الإسلام معايير دقيقة في شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون بين عباد الله تعالى، وأهمّ تلك المعايير أن تكون مبنيّة على أساس متين وجامع، ألا وهو الحبّ والبغض في الله تعالى؛ ذلك أنّ أوامره سبحانه ونواهيه، ومرضاته وسخطه، إنّما هي محور حركة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
فإذا ما كانت نظرة الإنسان إلى الآخر وعلاقته به مبنيّة على هذا الأساس، فذلك يعني أنّه يحدّد شكل المسار الذي يريد السلوك فيه في هذه الحياة، وبذلك يضمن عدم الحياد عن جادّة الحقّ والصواب، أو على الأقلّ يبقى قريباً من جادّة الحقّ والصواب.
وقد ورد العديد من الأحاديث التي تحثّ على هذا المفهوم، وبأنّ عرى الإيمان إنّما تكون في الحبّ في الله والبغض في الله، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأصحابه: أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحجّ والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لكلّ ما قلتم فضل، وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله، وتوالي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله»[2].
هل الدِّين إلّا الحبّ؟!
إنّ الحبّ في الله يترجم من خلال ولاية أولياء الله تعالى، وولاية المؤمنين به سبحانه، فقد ورد أنّ رجلاً دخل على الإمام الباقر (عليه السلام) وهو قادم من خراسان ماشياً، فأخرج رجليه وقد تفلّقتا (تشقّقتا) وقال: أما والله، ما جاءني من حيث جئت إلّا حبّكم أهل البيت، فقال الإمام (عليه السلام): «والله، لو أحبّنا حجرٌ حشره الله معنا، وهل الدِّين إلّا الحبّ!؟ إنّ الله يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾5، وقال: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾6، وهل الدِّين إلّا الحبّ!»[3].
وورد أنّه قيل للإمام الصادق (عليه السلام): إنَّا نسمِّي بأسمائكم وأسماء آبائكم، فينفعنا ذلك؟ فقال (عليه السلام): «إي والله، وهل الدِّين إلّا الحبّ؟ قال الله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾»[4].
ورُوي: «أنّ الله تعالى قال لنبيّه موسى (عليه السلام): هل عملت لي عملاً قطّ؟ قال: صلّيت لك وصمت وتصدّقت. قال الله تبارك وتعالى له: أمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جنّة، والصدقة ظلّ، والزكاة نور، فأيّ عمل عملت لي؟ قال موسى (عليه السلام): دلّني على العمل الّذي هو لك. قال: يا موسى، هل واليت لي وليّاً؟ فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله»[5].
درجة المتحابّين في الله
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ من عباد الله لأُناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء لمكانهم من الله»، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الّذين يتحابّون بروح الله من غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطون بينهم، وإنّ على وجوههم لنور، وإنّهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزنوا»[6]، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[7]».
الأصل هو رضا الله
إنّ بعض الناس قد يقع فريسة العصبيّات والأهواء الشخصيّة، التي تتنافى مع رضا الله تعالى، كأن يوالي أحدٌ أحداً ولو كان ظالماً، فقط لمجرّد كونه من أرحامه أو عشيرته أو بينه وبينه مصلحة ما، وهذا في الواقع يتناقض تمام التناقض مع الولاية الحقيقيّة لله سبحانه، فالموالي والمحبّ الحقيقيّ لله ودينه، لا يوالي ما يبغضه ومن يبغضه سبحانه، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي لا يوالون من خالف الله ورسوله وإن قربت لحمتهم، لأنّ ولايتهم ومحبّتهم لله وفي الله تعالى، فلا تجتمع مع موالاة الكفّار ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم﴾؛ أي حتّى وإن كانوا أقرب الناس، فإنّهم لا يوالونهم إذا خالفوهم في الدِّين وكانوا محادّين لله ورسوله.
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»[8].
مظاهر الحبّ في الله؟
إنّ للحبّ في الله أشكالاً متعدّدة، منها:
1. أن تحبّ شخصاً في الله لكونه قريباً من الله تعالى، وكلّما كان تدرّجُهُ في القرب من الله وترقّيه في طاعته أكثر، كان حبُّك له في الله أعظم، إلى أن يصل الأمر إلى حبِّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، والأولياء.
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «لا يؤمن عبدٌ حتّى أكون أحبَّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته»[9].
2. أن تُحبّ من يكون معيناً لك على قربك من الله، فإذا أحببت المؤمن لمساعدته إيّاك في إنفاذ الأعمال الخيريّة مثلاً الّتي فيها لله رضا، أو في إحياء الشعائر الإلهيّة، وإقامة المراسم الدينيّة لترويج الدِّين والشريعة المقدّسة، بتهيئة مقدّماتها من مال أو تجهيز، ويسعى في إنجاحها وقوّة تأثيرها في المؤمنين وإيصالها إلى أهدافها. فحبّك لهذا الشخص حبّ في الله؛ لأنّه يساعدك ويعينك على القرب من الله تعالى.
3. كلّ من يعينك في رفع حوائجك الدنيويّة الّتي لا بدّ منها، كالمسكن والغذاء والملبس إذا كان يفرِّغُكَ بذلك لطاعة الله تعالى من عبادة، وعلم، وعمل: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الِاهْتِمَامُ بِه، واسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْه، واسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَه»[10].
4. وكذلك في الحياة العائليّة والاجتماعيّة، ومنها العلاقة الزوجيّة، حيث إنّ فيها الكثير من سبل التقرّب إلى الله تعالى، من قبل الزوج والزوجة على حدٍّ سواء، فالزوج الذي يكدّ ويجهد في سبيل تأمين لقمة العيش لتعيش عائلته بأمان وسلام، إنّما فعله هذا يكون في مرضاة الله، وهكذا في المقابل فإنّ المرأة التي تسعى في سبيل تأمين أوقات هانئة لزوجها وأسرتها وتضع ذلك في عين الله تعالى، فهذا من الحبّ في الله.
البغض في الله
أمّا البغض في الله، فهو أن يبغضَ المؤمنُ إنساناً لأجل عصيانه لله ومخالفته لإرادته تعالى، فإنّ من يحبّ في الله لا بدّ وأن يبغض في الله، فإنّك إن أحببت إنساناً لأنّه مطيع لله ومحبوب عنده، لا بدّ في المقابل أنّك ستُبغِضُ من يعصيه ويكون ممقوتاً عنده، ومبغوضاً لديه، ورد عن النبيّ عيسى (عليه السلام): «تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقرّبوا إلى الله بالتباعد منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم»[11].
وروي أنّ الله أوحى إلى بعض عبّاد بني إسرائيل، وقد دخل قلبه شيء: «أمّا عبادتك لي فقد تعزّزت بي، وأمّا زهدك في الدنيا فقد تعجّلت الراحة، فهل واليت لي وليّاً أو عاديت لي عدوّاً؟»[12].
[1] سورة المجادلة، الآية 22.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص126.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج27، ص95.
[4] المصدر نفسه، ج27، ص95.
[5] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج12، ص220.
[6] المصدر نفسه، ج12، ص224.
[7] سورة يونس، الآية 62.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص75.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص414.
[10] الصحيفة السجّاديّة، ص92.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج14، ص330.
[12] المصدر نفسه، ج27، ص57.