الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ الزواج من الأمور المهمّة، التي دعا إليها الإسلام وحثّ عليها، وقد ورد العديد من الآيات القرآنيّة والأحاديث المطهّرة التي تكلّمت على فضله وأهمّيّته، وما يرتبط به من اختيار الزوج والزوجة، والحقوق والواجبات المتبادلة بين الطرفين، وكذلك في ما يتعلّق بالنزاعات وحلّها، والمعايير المثلى لبناء أسرة صالحة.
ومن أبرز ما أوضحه الإسلام في أمر الزواج، هو اعتباره محلّاً للسكون والطمأنينة بين الطرفين، وهذا من أروع التوصيفات التي ينبغي أن يسعى إليه الزوجان لضمان تحقيقه، إذ إنّ السكون والاطمئنان ضالّةُ كلّ إنسانٍ يبحث عن الاستقرار الروحيّ والمعنويّ والاجتماعيّ.
فضل الزواج وذمّ العزوبيّة
كثيراً ما يتداول الشباب والفتيات في هذه الأيّام، أمر الزواج بشيء من التوجّس والخيفة، وكأنّه في نظرهم شيء مخيف، حتّى يصل الأمر ببعضهم إلى العزوف عنه، وتفضيل العزوبيّة عليه!
ولا بدّ قبل بيان الأسباب الرئيسة لمثل هذا التفكير، من أن نبيّن فضل الزواج وأهمّيّته في الثقافة الإسلاميّة، من خلال بعض الأحاديث المطهّرة، نذكر منها:
- عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «ما بُني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من التزويج»[2].
- وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: «المتزوّج النائم، أفضل عند الله من الصائم القائم العزب»[3].
- وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ ركعتين يصلّيهما رجل متزوّج، أفضل من رجلٍ يقوم ليله ويصوم نهاره أعزب»[4].
- وقد عدّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الزواج سنّةً من سننه، ولو كانت العزوبيّة أفضل لكان هو (صلّى الله عليه وآله) أولى بها، وهو خير خلق الله سبحانه، قال: «النكاح من سنّتي، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي»[5].
أسباب العزوف عن الزواج
ثمّة أسباب متعدّدة تجتمع أحياناً لتشكّل معاً حجر عثرة بين الشباب والزواج، من تلك الأسباب:
1. تسخيف أهمّيّة الزواج
فقد تعمد جهات عدّة، كتلك التي تجهد في سبيل نسف القيم الاجتماعيّة، وإضعاف الروابط الاجتماعيّة لدى أبناء المجتمع، إلى الترويج بأنّ الزواج أمر عاديّ وغير ضروريّ، بل أحياناً يعمدون إلى تصويره كسجنٍ يضيّق من حرّيّة الشباب، ولا جدوى منه ولا طائل!
وهذا يزرع في الشابّ نوعاً من اللامبالاة بأمر الزواج، والنظر إليه نظرة استخفاف، فيؤخّرون أمر الزواج إلى حين، بل قد يبقى بعضهم عازباً طيلة حياته!
2. الفساد الأخلاقيّ
إنّ تشعّب طرق الفساد وتنفيس الشهوات، ولو عن طريق الحرام، قد يكون سبباً من أسباب عزوف بعض الأشخاص عن الزواج، وهذا الأمر من أخطر ما ينتج عن التفلّت الأخلاقيّ الذي يستغلّه الشيطان في إزواء الشباب عن التمسّك بهذه السنّة العظيمة، وهذا ما يستدعي التنبّه من الانزلاق في طرق الشهوات المحرّمة التي ينتج عنها الكثير من الآفات، ومنها تفضيل العزوبيّة على الزواج والاستقرار الاجتماعيّ.
إنّ مثل هذا النوع من الأسباب الموجبة لعدم الاهتمام بأمر الزواج يتكفّل به أيضاً الوالدان، فينبغي عليهما مراقبة أبنائهم وبناتهم، وكذلك توعيتهم على المثل والقيم الحسنة التي ينبغي التمسّك بها.
3. الوضع الاقتصاديّ
إنّ الضيق الاقتصاديّ هو أحد الأسباب الرئيسة التي تزوي بعض الشباب عن الزواج، ويزداد الوضع سوءاً فيما لو حكمت -علاوة على الضيق الاقتصاديّ- بعض التقاليد والعادات الاجتماعيّة، التي تفرض بعض التكاليف الزائدة على المقبلين على الزواج، كالمهر المرتفع، وتجهيز حفلة عقد القران والعرس، وتجهيز البيت الزوجيّ من أثاثٍ وغير ذلك...
إنّ بعض العادات والتقاليد، أو بعض المظاهر التي رست في بعض المجتمعات، وأصبحت وكأنّها أمر مفروض وواجب، يسهم في تقويض نسبة المقدمين على الزواج.
غلاء المهر
إنّ المهر في الإسلام إنّما هو حقّ له فلسفته، وليس للمظاهر، ولا ارتباط له بقيمة المرأة كما يظنّ بعضهم، إذ يعتقدون خطأً أنّ المهر كلّما ارتفع، كان تعظيماً للمرأة!
وقد أرشد الإسلام إلى أنّه ينبغي أن يكون المهر معتدلاً في قيمته، عادّاً المهرَ المرتفع من علامات شؤم المرأة، كما عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): « أمّا المرأة، فشؤمها غلاء مهرها»[6].
وعنه (صلّى الله عليه وآله): «إنّ مِن يُمْنِ المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقه[...]»[7].
غلاء المهر سبب من أسباب الظلم
في كثير من حالات الطلاق التي تحدث، تقع المرأة في شباك مهرها الغالي، المكتوب من حقّها، إذ يعمد بعض الأزواج إلى التضييق على زوجته التي ينوي طلاقها، فقط من أجل أن تتنازل عن المهر المكتوب لها، وإلّا فإنّها تبقى كالمعلّقة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ المهر المرتفع، لا يمكن أن يحمي المرأة ويحصّنها من ظلم بعض الأزواج، فضلاً عن أنّه لا يحدّد قيمتها ومكانتها، ليبقى مجرّد رقم مكتوب في أغلب الحالات الشبيهة بذلك!
تكاليف الزواج
ومن ذلك ما يرتبط بتجهيز العروس وحفل العرس، إذ يتكبّد بعض الناس مبالغ كبيرة لا تتلاءم مع قدراتهم الماليّة، بل قد يقعون في الدين والقروض، فقط من أجل تأمين حاجيّات العرس، والتي غالباً ما تكون بعيدة عن الآداب والسنن المستحبّة، على سبيل المثال، يتكلّفون على المظاهر، ويتركون سنّة الوليمة التي هي من المستحبّات المؤكّدة!
البيت المملوك!
بعض الشباب والفتيات لا يرضون بالعيش في بيوت مستأجرة، وهذا ما يحجمهم عن الإقدام على الزواج، أو القبول بشابّ لا يملك بيتاً أو شقّة سكنيّة، بحجّة أنّ العيش في بيت مستأجر لا يتلاءم مع شأنيّتهم، وغير ذلك.
إنّ هذا الأمر من أكثر الأمور التي تقف حائلاً دون إقدام الشباب على الزواج، بل قد تقع فتيات كثيرات في شباك ما يضعه بعض الأهل من شروط على العريس على هذا النحو.
فقر الخاطب
من المظاهر التي لا تمتّ إلى ثقافة الإسلام بصلة، ما يقع فيه الكثيرون، من فتيات وآباء الفتيات، إذ يرفضون خاطباً ما، لمجرّد كونه فقيراً، لا يملك ما يطمحون إليه، أو أنّ وضعه المعيشيّ لا يتلاءم مع مطامحهم المادّيّة، وإن كان ذا أخلاق رفيعة وأدب حسن.
وقد قال الله تعالى بشكل واضح وصريح، أنّ من كان على هذا حاله، فزوّجوه، وقد تكفّل هو سبحانه برزقه، إذ يقول: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وأوضح النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) المعايير الأساس التي ينبغي أن تتوفّر في الخاطب، قائلاً: «إذا جاءكم من ترضَون خلقه ودينه فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[8].
فلم يقل إذا جاءكم من ترضَون ماله، أو حسبه ونسبه، دونما النظر إلى أخلاقه ودينه، فالأخلاق والدين هما الأساس في صفات الزوج الصالح.
هذا كلّه، يُعَدّ تضييقاً على المقبلين على الزواج، مع أنّ الدين الإسلاميّ الحنيف، قد أوصى بعدم التكلّف في الحياة، وأن يعيش المرء كفاف يومه، وأنّ الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد قال النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «اتّخذوا الأهل، فإنّه أرزق لكم»[9].
[1] سورة النور، الآية 32.
[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص196.
[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج14، ص155.
[4] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج7، ص405.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج22، ص180.
[6] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص152.
[7] المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج11، ص99.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص347.
[9] الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج3، ص282.