الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾[1].
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وهذا بيت استَعْبَد اللهُ به خلقَه، ليختبر طاعتَهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلَّ أنبيائه وقبلةً للمصلّين له، فهو شُعبةٌ من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه»[2].
أيّها الأحبّة،
إنّ للحجّ أبعاداً متعدّدة، ترتبط بحياة الإنسان عامّة، وعلاقته بالله سبحانه خاصّة، فهو ليس مجرّد عبادة فرديّة، يتوجّه فيها العبد إلى خالقه، متهجّداً خاشعاً بين يديه، يطلب منه العفو والصفح على ما اقترف من الذنوب والخطايا، إنّما هو عبادة ذات شعب متعدّدة، تتّحد في ما بينها لتشكّل منظومة متكاملة، تُسهم في تقويم حياة الإنسان الفرديّة والجماعيّة على أصعدة شتّى؛ على الصعيد التربويّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فضلاً عن الصعيد الروحيّ والمعنويّ الذي لا يمكن انفكاكه عن شعائر الحجّ ومناسكه كلّها.
عن الإمام الرضا (عليه السلام): «علّة الحجّ الوفادة إلى الله عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف، وليكون تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذّات، والتقرّب في العبادة إلى الله عزّ وجلّ، والخضوع والاستكانة والذلّ [...]، ومنه ترك قساوة القلب، وخساسة الأنفس، ونسيان الذكر، وانقطاع الرجاء والأمل، وتجديد الحقوق، وحظر الأنفس عن الفساد، ومنفعة من في المشرق والمغرب، ومن في البرّ والبحر، وممّن يحجّ وممّن لا يحجّ، من تاجرٍ وجالبٍ وبايعٍ ومشترٍ وكاتبٍ ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، كذلك ليشهدوا منافع لهم»[3].
في الحجّ، بمكانه وزمانه، عودٌ إلى تاريخٍ عظيم، فيه دروس وعِبَر، تتجلّى منه معالم ترسيخ التوحيد الحقيقيّ لله تعالى، على يد النبيّ إبراهيم (عليه السلام) خليل الله، الذي امتثل أمر الله تعالى في تطهير البيت الحرام، ليكون مكاناً للجوء عباده إليه في توجّههم نحوه سبحانه.
في الحجّ إحرام، يُشعِر العبد بضرورة تخلّيه عن زبارج الدنيا الفانية، وعن ضرورة الالتزام والتقيّد بما يحكم به سبحانه.
في الحجّ طوافٌ، تعبيراً عن ملازمة العبد أوامر الله عزّ وجلّ، بعد أن لازم أموره المادّيّة في حياته.
في الحجّ سعي بين الصفا والمروة، تعبيراً عن هروب العبد من الشيطان، وتذليلاً لنفسه بين يدي العزيز الجبّار.
في الحجّ وقوفٌ على عرفات، إذ يعترف بين يدي ربّه، بتقصيره وجرأته على تعدّي حدود الله سبحانه.
في الحجّ اجتماع للمؤمنين، بكلّ أطيافهم وألوانهم واختلاف ألسنتهم، إذ تتوحّد كلمتهم ويتوحّد توجّههم نحو إلهٍ واحدٍ أحد.
إنّ ذلك كلّه وغيره من مناسك الحجّ وشعائره، لا بدّ من أنّه يُسهم في تهذيب الروح والعقل من أدران هذه الدنيا، ويجعله ينظر بعين الحقّ، حتّى يرفض الباطل بأشكاله كلّها، وعلى رأسه الظلم والطغيان.
فالإنسان الذي يرى حقيقة الدنيا وقدْرَ صغرها في تلك البقاع المباركة، والذي يرى كيف تجتمع أطياف الناس، وهم على حدٍّ سواء بين يديه، من دون فرق بينهم بين غنيّ وفقير، أو صاحب سلطة وغيره، والذي يعايش مواجهة الشيطان بيديه عند رميه الجمرات، إنّ ذلك كلّه سوف يزرع في نفسه روح العنفوان في مواجهة أشكال الباطل كلّها، شرط أن يكون مدركاً حقّاً لفلسفة الحجّ، وعاملاً فيها بإخلاص وتفانٍ.
خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكّة
من تلك البقعة المباركة، إذ يُحرم الناس ويطوفون ويسعَون، ويرمون الجمرات، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) متوجّهاً إلى الكوفة، لمواجهة حكم يزيد بن معاوية، وتعدّيه على دين الله وحكمه.
فقد خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من ذاك الجمع الكبير، ليعلن ثورته بوجه يزيد وأعوانه، وقد قيل الكثير في أسباب ذاك التوقيت لخروجه، إلّا أنّه بالإمكان اعتبار خروجه بخصوص وقت الحجّ، أنّه كان ذات مغزىً ومعنى، ولم يكن أمراً طارئاً، فقد كان باستطاعته التأجيل أيّام معدودة، ومن ثمّ الخروج.
وهذا يعني، أنّ خلف توقيت الإمام الحسين (عليه السلام) سبباً مهمّاً، جعله يتّخذه الوقت المناسب لإعلان ثورته بوجه يزيد وأعوانه، وهو أنّ مثل هذا الخروج سوف يكون له وقع في نفوس المسلمين، وليكون درساً عملياً في أن لا يسكتوا بوجه من يستبيح حرمة الإسلام ويتعدّى حدود الله تعالى.
وكان (عليه السلام) قد ألقى الحجّة على من أرسل إليهم رسائله، معلناً خروجه وثورته المباركة، كوصيّته التي أوصى بها إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، إذ قال فيها: «أَنَّ اَلْحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اَلْحَقِّ، وَأَنَّ اَلْجَنَّةَ وَاَلنَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا، وَأَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ، وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلاَ بَطِراً وَلاَ مُفْسِداً وَلاَ ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلّى الله عليه وآله)، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ اَلْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ»[4].
مضافاً إلى ذلك، فإنّ فكّ الإمام الحسين (عليه السلام) لإحرامه وعدم إكماله مناسك حجّه، يدلّ على أنّ الأمر الذي يريد الإقدام عليه إنّما هو في غاية الأهمّيّة والخطورة، خاصّة أنّه (عليه السلام) لم يقطع الحجّ إلّا بعد أن ألقى الحجّة على الآخرين، وأرسل لهم رسائله بأنّه خارجٌ لا محالة بوجه يزيد.
بين الحجّ ومواجهة الظلم
إنّ الحجّ دورة تدريبيّة تعبّئ الإنسان بالمبادئ الإنسانيّة والمفاهيم السليمة، التي لا بدّ من أن تكون دافعاً مهمّاً في تحريكه نحو تطبيق ما يحمله من مفاهيم على أرض الواقع، وأن لا يبقى ذلك مجرّد أمور نظريّة.
وقد تجلّى هذا المعنى في حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ أعلن بخروجه، أنّه لا بدّ لمن يحمل المفاهيم الحقّة، أن لا يسكت عمّن يهتك حرمة الإسلام والمسلمين، وهذا ترجمة حقيقيّة لكلّ ما مرّ من مناسك وشعائر يقوم بها حجّاج بيت الله الحرام. فإنّ مفاهيم الحجّ ودروسه إنّما تترجم على أرض الواقع في أن يكون سلوك الإنسان سلوكاً متناسباً ومتناغماً مع تلك المفاهيم، وأبرز تلك المفاهيم، مفهوم مواجهة الظلم، وعدم الرضوخ للطغاة والظالمين.
وهكذا يمكن اعتبار خروج الإمام الحسين (عليه السلام)، ترجمة فعليّة لفلسفة الحجّ ودروسه.
[1] سورة التوبة، الآية 3.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص198.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج96، ص33.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص329.