الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
لا بدّ في التجارة كي تتحقّق من أن يكون هناك طرفان في ما بينهما نوع ارتباط؛ أحدهما يقدّم والآخر يأخذ، وفي مقابل ذلك ربح قد يحصل عليه الطرفان معاً، وقد يحصل عليه طرف واحد.
وقد تتعلّق التجارة هذه بأمر مادّيّ، وربّما بأمر معنويّ، وقد يكون الربح فيها عاجلاً، وربّما يكون مؤجّلاً.
وفي الحالات كلّها، العاقل من ينظر في الربح العميم، فلا يقدّم القليل على الكثير، ولا الكثير الفاني على القليل الباقي، ولا الربح البسيط على الربح ذي القيمة الرفيعة.
من هذا وذاك يستطيع المرء أن يحدّد خياراته، وفي ذلك يختلف الناس، فتتنوّع اهتماماتهم وأولويّاتهم، فيتميّز أهل الدنيا الفانية عن أهل الآخرة الباقية.
التجارة مع الله
وكذلك يتميّز من يكون أكثر دراية في التجارة المربحة من غيرها، وأولئك هم الذين تاجروا مع الله تعالى فكانوا مثالاً لقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾[2].
شروط التجارة مع الله
وضعت هذه الآية الكريمة شروطاً لتلك التجارة المربحة والمنجية، هي الأساس والركيزة التي ينبغي على المؤمن الاعتماد عليهما في علاقته مع الله والحياة الدنيا.
أوّلها: الإيمان بالله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، إذ يقول سبحانه: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
ثانيها: الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُم﴾.
الربح الموعود
أمّا في الجزاء، وهو ربح تلك التجارة العظيمة، هو ما يأتي:
1. غفران الذنوب: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾.
2. جنّات عدن: ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار﴾.
3. مساكن طيّبة: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
نماء الربح في التجارة مع الله
ليس لكرم الله حدّ، فهو الكريم الجواد الذي يعطي لعباده من فيض كرمه وعطائه، ومن ذلك الجود الإلهيّ أنّه سبحانه ينمّي أجر الفاعل للحسن، قال سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[3].
وقال سبحانه: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَ﴾[4].
إنّ الجهاد من أجلى مصاديق التجارة المنجية والمربحة، إذ أجزل فضله والعطاء عليه، سواءٌ أكان هذا الجهاد بالمال أم بالأنفس.
وممّا ورد في فضل الجهاد بالمال: عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «من جهّز غازياً في سبيل الله، كان له أو كُتب له مثل أجر الغازي في أنّه لا ينقص من أجر الغازي شيئاً»[5].
الحصار وكربلاء
أمام هذه الحصار الاقتصاديّ الذي نواجهه من قِبل الاستكبار وطواغيت زماننا، ونحن على أعتاب محرّم الحرام، شهر العزّة والإباء والمواجهة، حريٌّ بنا أن نصبر ونتاجر مع الله بأموالنا وأنفسنا إن استدعى الأمر ذلك، رافضين الخضوع أمام الحصار المفروض علينا؛ فالإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء واجه نوعين من الحصار؛ الأوّل عسكريّ تمثّل في المواجهة بعديد قليل (73 شخصاً على المشهور)، في قبال ثلاثين ألفاً، كما في الروايات.
والثاني حصار اقتصاديّ تمثّل في منع إيصال الطعام والماء إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) ومخيّمه، حتّى أدّى ذلك إلى جوع الأطفال والصغار وعطشهم، فضلاً عن الرجال والكبار الذين قَضَوا نحبهم عُطاشى!
أمام ذلك كلّه، لم يخضع الإمام الحسين (عليه السلام) ومعسكره، بل رفع شعار «هيهات منّا الذلّة»، وكان انتصار الدم على السيف، وكانت التجارة الرابحة مع الله، والتي تجلّت في نداء زينب (عليها السلام) أمام جسد أخيها (عليه السلام) حين قدّم نفسه في سبيل الله، قائلةً: «اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان».
وكذلك فاز أصحابه وأهل بيته بنيلهم الشهادة بين يدي إمام زمانهم (عليه السلام)، فكانوا أعظم مصداق للآية القرآنيّة الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[6].
[1] سورة الصفّ، الآيات 10 - 13.
[2] سورة فاطر، الآيتان 29 و30.
[3] سورة البقرة، الآية 261.
[4] سورة الأنعام، الآية 160.
[5] الهنديّ، كنز العمال، ج4، ص293.
[6] سورة الصفّ، الآيات 10 - 13.