الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
عن الإمام الحسين (عليه السلام): «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت أطلب الصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين»[1].
أيّها الأحبّة،
لم تكن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) مجرّد معركة عسكريّة، إنّما كانت مدرسةً في الدين والإيمان والأخلاق والصفات الطيّبة، التي لا بدّ لكلّ إنسان مستقيم من التحلّي بها والسعي في سبيل امتلاكها. ولا بدّ من قراءة هذه الثورة المباركة على أنّها محطّةٌ ساطعةٌ في بثّ القيم الأخلاقيّة النبيلة، التي تجلّت في شخصيّةِ ثائرِها الإمام الحسين (عليه السلام)، حتّى تُرجمت في مواقفه وأقواله، ولم يمِل عنها قيد أنملة؛ فقد كان (عليه السلام) قمّةً في الإنسانيّة والصفات النبيلة، حتّى بقي ذكره على ألسنة السالكين وفي قلوبهم، ومؤثِّراً فاعلاً في التغيير الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ على مدى هذه القرون المديدة.
من المظاهر الأخلاقيّة للإمام الحسين (عليه السلام) في الثورة
سطعت في شخصيّة الإمام الحسين (عليه السلام)، في ظلّ معركته الخالدة بوجه الظلم والظالمين، معالمَ الأخلاق الكريمة بأبهى صورها، ولم تخرق تلك المصائبُ والاستفزازاتُ المتعدّدة من قِبل أعداء الله مبادئَه، ولم يستطيعوا ثنيَه عنها.
ومن تلك الأخلاقيّات:
الوفاء بالعهد
إنّ من صفات المؤمن أن لا يَعِدَ بما لا ينوي الوفاء به أو بما لا قدرة له على الوفاء به، وإذا ما وعد، فلا بدّ من أن تكون لديه نيّة فعليّة وصادقة على ذلك، وإلّا سيكون ناكثاً للوعد والعهد.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد أظهر تمسّكه بهذه المفردة الأخلاقيّة العظيمة، حينما جاء إليه الوليد طالباً مبايعته ليزيد، فأبى (عليه السلام)، مع علمه بخطورة هذا الموقف الذي اتّخذه، خاصّة بعد أن وشى مروان بن الحكم إلى الوليد بضرب عنق الإمام إذا ما تخلّف عن البيعة، فقال له الإمام (عليه السلام) عقب ذلك: «أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت -والله- وأثمت!»، ثمّ أقبل على الوليد، فقال: «[...] إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[2].
هذا الموقف من الإمام (عليه السلام) يتناغم وينسجم مع مبدأ إسلاميّ قرآنيّ، يتمثّل في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾[3].
الابتداء بالحرب
كان (عليه السلام) حريصاً على وأد الفتن والاقتتال، ولا يبتغي إراقة الدماء، إلّا أنّ وسائل السلم لم تكن متاحة مع أولئك الجبابرة والطغاة، وكان لا بدّ من موقفٍ حاسم يحفظ من خلاله الرسالةَ الإسلاميّة والأمّةَ من الضياع، ولم يبقَ أمامه سوى المواجهة العسكريّة.
مع ذلك، بقي الإمام (عليه السلام) ملتزماً بعدم ابتدائهم بالقتال، ففي صباح عاشوراء أمر (عليه السلام) أصحابه، فأوقدوا في حطبٍ كان وراءهم، كي لا يأتيَهم العدوُّ من ورائهم، فقال شمر: يا حسين، تعجّلت النار في الدنيا! فقال (عليه السلام): «مَن هذا؟» قالوا: شمر بن ذي الجوشن، فقال: «أنت والله أولى بها صليّاً»، فقال مسلم بن عوسجة: يابن رسول الله، ألا أرميه بسهم؟ فقال الحسين (عليه السلام): «لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم»[4].
كراهيته البدءَ بالقتال، كان من منطلقٍ رحمانيّ يعيش به قلبُه الشريف.
النصيحة
ينقل ابن الأثير في الكامل أنّه: لما رأى أصحاب عمر النار تلتهب في القصب، نادى شمر الحسينَ: تعجّلت النارَ في الدنيا قبل القيامة! فعرفه الحسين، فقال: «أنت أولى بها صليّاً»، ثمّ ركب الحسين راحلته، وتقدّم إلى الناس، ونادى بصوت عالٍ يسمعه كلّ الناس، فقال: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم عليّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأنصفتموني، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾[5]، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين﴾[6]. [...] أمّا بعد، فانسبوني، فانظروا من أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم فعاتبوها، وانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألستُ ابنَ بنت نبيّكم وابنَ وصيِّه وابنِ عمّه، وأولى المؤمنين بالله، والمصدِّق لرسوله؟!»[7].
فقد كان كجدّه (صلّى الله عليه وآله)، وأبيه وأخيه (عليهما السلام)، حريصاً على النصيحة للمؤمنين، وهي من أنبل الصفات وأرفعها.
المروءة
ينقل الشيخ المفيد (رحمه الله) أنّه: جاء القوم زهاء ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميميّ، حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون، متقلّدوا أسيافهم، فقال الحسين (عليه السلام) لفتيانه: «اسقوا القوم، وارووهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً»، ففعلوا، وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزِلت عنه، وسقَوا آخر، حتّى سقَوها كلّها. فقال عليّ بن الطعان المحاربيّ: كنت مع الحرّ يومئذٍ، فجئتُ في آخر من جاء من أصحابه، فلمّا رأى الحسين (عليه السلام) ما بي وبفرسي من العطش، قال: «أنِخ الراوية»، والراوية عندي السقّاء، ثمّ قال: «يابن أخي، أنِخ الجمل»، فأنخته، فقال: «اشرب»، فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقّاء، فقال الحسين (عليه السلام): «اخنث السقّاء»؛ أي اعطفه، فلم أدرِ كيف أفعل، فقام فخنثه، فشربتُ وسقيتُ فرسي[8].
كان (عليه السلام) قد مثّل في هذا الموقف أنبلَ مواقف مروءة النفس وكرمها، فقد جاؤوا إليه محاربين، فبادرهم بلطفه وحنوّ قلبه وإنسانيّته.
الغيرة
من صفات المؤمن أن يكون غيوراً، وبهذا اتّصف أنبياء الله وأولياؤه (عليهم السلام)، ومنهم الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ لم يفرّط بشيء من تلك المبادئ العظيمة التي تشرّبت بها نفسه المباركة، منها الغيرة على النساء؛ فقد ورد أنّه (عليه السلام) بينما كان في وسط المعركة في حالٍ يُرثى لها، فأرادوا التعرّض لنسائه -بالضرب وما شاكل-، فصاح بهم: «ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً»، فناداه شمر، فقال: ما تقول يابن فاطمة؟ قال: «أقول: أنا الذي أقاتلكم وتقاتلونني، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتَكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً»، فقال شمر: لك هذا، ثمّ صاح شمر: إليكم عن حرم الرجل، فاقصدوه في نفسه، فلعمري لهو كفو كريم، قال: فقصده القوم، وهو في ذلك يطلب شربة من ماء، فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم، حتّى أجلوه عنه!»[9].
السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، وأعظم الله أجوركم.
[1] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص241.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص325.
[3] سورة الإسراء، الآية 34.
[4] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص187.
[5] سورة يونس، الآية 71.
[6] سورة الأعراف، الآية 193.
[7] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص61.
[8] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص78.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص51.