«وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ. أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ»[1].
مواقف السيّدة زينب بعد كربلاء
تُعَدّ واقعةُ كربلاء من أهمِّ الأحداث التي عصفَت بالأمّة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وما مشهدُ مصارع الشهداء بأعظم ألماً وأشدّ قساوةً من مشهد السبي وموكب الأسر، الذي تحرّك من كربلاء إلى الكوفة في الحادي عشر من محرّم، وقد حُمِلَت السبايا على أقتاب الجمال، بغير وطاء أو غطاء، ورؤوس الشهداء على الرماح أمامهنّ، وقد اقتسمَت القبائلُ رؤوسَ أهل بيت الحسين (عليه السلام) وأصحابِه، لتأتيَ بها إلى ابن زياد، وكانت ثمانية وسبعين رأساً[2]!
في هذا المسار الأليم والطويل، كان للسيّدة زينب (عليها السلام) دورٌ أساسيّ ورئيسيّ، إذ كانت الشخصيّة الثانية على مسرح الثورة بعد أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، فقادَت المسيرةَ بعد استشهاده (عليه السلام)، وأكملَت ذلك الدورَ بحكمةٍ وصبرٍ عظيمَين.
نذكر من تلك المواقف أبرزَها:
1. بُعَيد شهادة الحسين (عليه السلام)
حينما حدثت الفاجعةُ الكبرى بمقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، أقبلَت الحوراء زينب (عليها السلام) إلى ساحة المعركة، تشقّ صفوفَ الجيش، غيرَ عابئة بالأعداء المدجّجين بالسلاح، تبحث عن جثمان أخيها (عليه السلام)، لتقفَ عنده غير مدهوشة ولا مذهولة أمام هول الرزايا العظمى، وتُطلقَ أوّل شرارةٍ للثورة على الحكم الأمويّ بعد أخيها، إذ شخصَت ببصرها إلى السماء، وقالت: «اللهمّ، تقبّل منّا هذا القربان»[3].
من هنا، كانت انطلاقة ما خطّط له الإمام الحسين (عليه السلام) بعد شهادته، إذ حطّم بإخراج نسائه وعياله معه إلى كربلاء، مخطّطاتِ السياسة الأمويّة، وبدأ بِدكِّ معالم الظلم التي وضعها معاوية، وكان ذلك بدايةً لبثِّ الوعي الاجتماعيّ، وتعريف المجتمع بواقع الأمويّين، وتجريدهم من الإطار الدينيّ.
2. خطبتها في الكوفة
لقد حملَت السيّدة زينب (عليها السلام) رايةَ الإيمان التي حملها الإمامُ الحسين (عليه السلام)، ونشرَت مبادئَها العليا التي استشهد من أجلها، إذ انبرَت تدكّ حصونَ الظالمين وتدمّر نصرَهم المزيّف، وتُلحق بهم العارَ والهزيمة، وتملأ بيوتَهم مأساةً وحزناً.
لمّا دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائلٍ لا يدري لمن السبايا، وبين عارفٍ يُكفكِف أدمعاً ويُضمِر ندماً.
يقول حذلم بن ستير[4]: ورأيتُ زينبَ بنت عليٍّ (عليهما السلام)، ولم أرَ خَفِرةً[5] قطّ أنطقَ منها، كأنّها تفرغ من لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد أومأَت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدَّت الأنفاس، وسكتَت الأصوات، فقالت: «الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلى أَبِي رَسُوْلِ اللهِ. أَمَّا بَعْدُ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْخَذْلِ، فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، فَمَا مَثَلُكُمْ إِلَّا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ... أَتَبْكُونَ؟! إِيْ وَاللهِ، فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ فُزْتُمْ بِعَارِهَا وَشَنَارِهَا... وَيْلَكُمْ! أَتَدْرُونَ أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ فَرَيْتُم؟! وَأيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟! وَأيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أصَبْتُمْ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً... أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ قَطَرَتِ السَّمَاءُ دَماً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزى...»[6].
بهذا الخطاب البليغ، والبيان الدقيق، فضحَت زيفَ إيمانهم وكذبَ دموعهم، واستطاعَت الحوراء زينب (عليها السلام) في أوّل محطّة من محطّات السبي، أن توصلَ الآتي:
أ. إيضاح الصورة للرأي العامّ.
ب. إثارة الرأي العامّ على الأمويّين.
ج. إظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلاميّ بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
د. تحميل الكوفيّين مسؤوليّة هذه الجريمة النكراء.
3. الحجّة والمنطق في مواجهة ابن زياد
أمّا في قصر الإمارة، حيث الطاغية ابن مرجانة يروي أحقادَه من رأس ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ يلتفتُ إلى عائلة الإمام الحسين (عليه السلام)، فيرى سيّدةً منحازة في ناحيةٍ من مجلسه، وقد حفَّت بها المهابة والجلال، فيسأل عنها قائلاً: مَن هذه التي انحازت ناحيةً، ومعها نساؤها؟
فأعرضَت عنه احتقاراً واستهانةً به، وكرّر السؤال، فلم تجبه، فانبرَت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.
فثارَت حفيدةُ الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وأجابَتهُ بشجاعة أبيها محتقِرةً إيّاه: «الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، وَإِنَّمَا يُفْتَضَحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا»[7].
لقد استطاعَت أن تهزَّ كيانَه بردِّها الشجاع هذا، وكأنّها تقول له: أنت الفاسق والفاجر، وأنت الذي افتُضحْتَ بجريمتك، ولسنا نحن الذين افتُضحْنا بجهادنا.
كذلك عندما خاطبها مستهزئاً، محاولاً التشفّيَ بها، إذ قال: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيكِ وأهلِ بيتك؟
فأفشلَت محاولتَهُ هذه بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها، قائلة: «ما رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يابْنَ مَرْجَانَةَ...»[8].
أظهرَت أنّ ما حصل لأخيها وأنصاره، إنّما هو استجابة لأمر الله تعالى الذي فرض الجهادَ ضدّ الظلم والعدوان، ثمّ تختم كلامَها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبّر أمامها، قائلةً: «ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يابْنَ مَرْجَانَةَ».
4. في مجلس الطاغية يزيد
وفي اليوم التالي، أمر ابنُ زياد جندَه بالتوجّه بسبايا أهل البيت (عليهم السلام) إلى الشام، إلى الطاغية يزيد بن معاوية، وأمر أن يكبّل الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالقيود، وأركب بنات الرسالة الإبل الهُزّل، تنكيلاً بهنّ، وأظهر الطاغية يزيد فرحتَه الكبرى بإبادته عترةَ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله)، وأخذ يهزّ أعطافَه مسروراً، متمنّياً حضورَ أشياخه، ليريَهم كيف استوفى ثأرهم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعريّ، التي يقول في مطلعها:
لَيْــــتَ أَشـــــْيَاخِي بِبَدرٍ شَـهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ وَقْعِ الأَسَـلْ[9]
فلمّا سمعَت العقيلةُ هذه الأبيات، ألقَت خطبتَها الشهيرة، بفصاحة أبيها عليّ (عليه السلام) وشجاعته، وقد ضمّنتها أعنفَ المواقف لفرعون عصره يزيد، وممّا قالته (عليها السلام):
«اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدٍ وآلِهِ أَجْمَعِينَ، صَدَقَ اللهُ، كَذَلكَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾...
أَمِنَ الْعَدْلِ يَابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسَوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ... وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ...
اَللَّهُمَّ، خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِنْ ظَالِمِنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا. فَوَاللهِ، مَا فَرَيْتَ إِلَّا جِلْدَكَ، وَلَا جَزَزْتَ إِلَّا لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرِّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ في عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ...
فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُو ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا...»[10].
لا شكّ في أنّ هذه الخطبة قد فضحَت يزيد، وهي تتكلّم بفصاحةٍ وطلاقةٍ، من دون أن ينتابها خوفٌ أو رعبٌ أمام هذا الظالم المحاط بجلاوزته وأعوانه، واستطاعَت أن تمرّغ كبرياءَهُ بالوحل، وتفضحَ مخطّطاتِهِ الّتي استهدفَت الإسلام.
إنّ مواقف هذه السيّدة العظيمة قد أماطَت اللثامَ عن الوجه الحقيقيّ للأمويّين، وكشفَت للناس زيفَهم وكفرَهم.
لقد تجلَّت لنا من خلال هذه المواقف كفاءةُ السيّدة زينب (عليها السلام) وعظمةُ شخصيّتِها، ومدى قدرتها على أداء الدور الذي لأجله أخرجها الإمامُ الحسين (عليه السلام) من المدينة، فكانت نِعْمَ الأخت المواسية، المساندة لأخيها في ثورته العظيمة الخالدة.
[1] السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص107.
[2] المصدر نفسه، ص85.
[3] الشيخ باقر شريف القرشيّ، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، ج2، ص301.
[4] في بعض النسخ: حذلم بن بشير.
[5] أي امرأة شديدة الحياء.
[6] الشيخ المفيد، الأمالي، ص321.
[7] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص115.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص116.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص231.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص134.