الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى ولادة الإمام السابع من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، في السابع من شهر صفر، عام 128هـ.
عُرِف هذا الإمام العظيم بالعلم والحكمة، واشتهر بكثرة اجتهاده وعبادته وعظيم شأنه، وامتاز بالفضل والكرامات والمواهب الإلهيّة، وكان أفقهَ أهلِ زمانه وأسخاهم وأكرمهم، يُعرف بباب قضاء الحوائج عند الله تعالى.
وفيه يقول والده الإمام الصادق (عليه السلام): «فيه العلم والحكم والفهم والسخاء، والمعرفة في ما يحتاج الناس إليه في ما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق وحسن الجوار، وهو بابٌ من أبواب الله تعالى»[1].
وإنّ حياته (عليه السلام)، كبقيّة آبائه وأولاده (عليهم السلام)، واحدةٌ من المراحل الأساس التي عملوا فيها على تحقيق أهداف الإسلام المحمّديّ، وذلك بما يتناسب مع الظروف والحيثيّات الخاصّة بكلّ عصر؛ ولكنّها كانت مليئة بالأحداث المهمّة والمثيرة، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «أعتقد أنّ الجهاد والمواجهة قد بلغتا أوجهما في عهد هذا الإمام (عليه السلام)».
الأصل تأسيس حكومة إلهيّة
إنّ الجهاد والمواجهة كانا حالة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) جميعاً، لكن باختلافٍ في الأسلوب وتنوّعٍ في الأدوار بحسب تنوّع الظروف واختلافها؛ فبعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً، لم تعد المواجهة المسلّحة مُجدية، بل أصبحت مواجهةً سياسيّة، ارتكزت على أمرين أساسيّين:
الأوّل: التبيين الصحيح للإسلام والتفسير الحقيقيّ للقرآن، وكشف التحريفات والمحرِّفين، وهذا له بعدٌ سياسيّ، إذ إنّ التحريف حصل من قِبَل أجهزة السلطة، وأصحاب الأقلام المأجورة الذين ظهروا بصورة العلماء، وكانوا يُحرِّفون الأمور من أجل السلاطين والحكّام.
الثاني: تبيين قضيّة الإمامة؛ فالإمامة هي حاكميّة المجتمع الإسلاميّ والقضيّة الأساس التي لم تكن واضحةً لمسلمي ذلك الزمان، والتي تمّ تحريفها من الناحيتين العمليّة والنظريّة.
هذه المواجهة السياسيّة، وهذا السعي السياسيّ، إنّما كان لهدف واحدٍ مشتركٍ بينهم (عليهم السلام)، ألا وهو تشكيل نظامٍ إسلاميّ وبناء حكومة إلهيّة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «كان سعي الأئمّة (عليهم السلام)، ومنذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحتّى عام 260هـ.ق، إيجاد حكومة إلهيّة في المجتمع الإسلاميّ وتأسيسها، وهذا هو الأصل المدّعى. ولا نستطيع القول أنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن كان كلّ إمام يهدف إلى تأسيس حكومة إسلاميّة مستقبليّة، كان ذلك في المستقبل البعيد أو القريب»[2].
المواجهة عند الإمام الكاظم (عليه السلام)
بالعودة إلى جهاد الإمام الكاظم (عليه السلام)، وانطلاقاً من أصالة تأسيس الحكومة الإلهيّة، يمكننا تسليط الضوء على أبرز أساليب الإمام (عليه السلام) في مواجهة طواغيت عصره، وهو الذي عاش في ظلّ الخلافة العبّاسيّة، وعاصر أربعةً من طواغيتها خلال مدّة إمامته البالغة خمساً وثلاثين سنة تقريباً، وهم: أبو جعفر المنصور ومحمّد المهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد.
1. النشاط العلميّ والفكريّ
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) زعيم الحركة العلميّة والنهضة الفكريّة بعد أبيه (عليه السلام)، وكان العلماء والرواة يلازمون مجلسه، وكان أصحابه وخواصّه إذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تدوينها وإثباتها[3].
وقد رُوي عنه الكثير من الأحاديث، ودُوِّنت في الكتب والمسانيد، في شتّى العلوم، من الحكمة والتفسير والفقه... على الرغم من أنّ أيّامه كانت أيّام تضييق وتشديد، خصوصاً في عهد هارون العبّاسيّ؛ لذا كانت الروايات عنه أقلّ من الروايات عن أبيه (عليه السلام)، ومع ذلك رُوي عنه ما ملأ بطون الدفاتر، وكان (عليه السلام) يُعرف بين الرواة بـ «العالم».
وقد قام الإمام (عليه السلام) بتربية نخبة من الأصحاب، تميّزوا بتخصّصهم في حقول المعرفة المختلفة والعلوم الدينيّة المتنوّعة، ومن بين هؤلاء مجموعة من تلامذته الفقهاء، أمثال يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر.
إنّ هذا النشاط العلميّ والعمل على تربية علماء يحملون علم آل محمّد (عليهم السلام)، لهو جهادٌ سياسيٌّ بامتياز، يصبّ في خدمة الهدف الأساس، ألا وهو تأسيس الحكومة.
2. المطالبة بحقّه في الخلافة
أكّد الإمام الكاظم (عليه السلام)، وفي مناسبات عدّة، تصريحاً وتلميحاً، أحقّيّته بخلافة النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وثمّة مواقف عديدة حصلت مع هارون الرشيد تبيّن هذا الأمر، منها:
لمّا دخل هارون الرشيد المدينة، توجّه لزيارة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم أبو الحسن (عليه السلام)، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه»، فتغيّر الرشيد وتبيّن الغيظ فيه[4].
وأيضاً، وفي مواجهة صريحة واضحة، تجلّت في المطالبة بـ «فدك»، وبما ترمز إليه من حقّ الإمامة، إذ رُوي أنّ هارون كان يقول للإمام (عليه السلام): خذ فدكاً حتّى أردّها إليك، فيأبى، حتّى ألحّ عليه، فقال (عليه السلام): «لا آخذها إلّا بحدودها»، قال: وما حدودها؟ قال: «إن حدّدتها لم تردَّها»، قال: بحقِّ جدِّك إلّا فعلت، قال: «أمّا الحدّ الأوّل فعَدَن»، فتغيّر وجه الرشيد، وقال: إيها[5]، قال: «والحدّ الثاني سمرقند»، فأربد[6] وجهه، «والحدّ الثالث إفريقية»، فاسودّ وجهه، وقال: هيه! قال: «والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية»، قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي! قال موسى (عليه السلام): «قد أعلمتُك أنّني إن حدّدتُها لم تردَّها». فعند ذلك عزم على قتله[7].
إنّ هذا الكلام من الإمام (عليه السلام) هو رسم لاستراتيجيّة الإمامة، وقد حاول هارون بإصراره على ردّ «فدك» سلب هذا الرمز الذي كان يطرحه الأئمّة (عليهم السلام) كشاهدٍ على مظلوميّتهم التاريخيّة، لكّن الإمام الكاظم (عليه السلام) عطّل عليه ذلك، وأظهر له الأمر الأهمّ، والذي كان كافياً كي يقرّر هارون قتله (عليه السلام).
3. تحريم التعامل مع السلطة
ويظهر ذلك جليّاً من خلال حديثه مع صفوان الجمّال، إذ قال له (عليه السلام): «يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل، ما خلا شيئاً واحداً»، قلتُ: جُعِلتُ فداك، أيّ شيء؟ قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل (يعني هارون)»، قال: والله، ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة)، ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني، فقال: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم، جُعِلتُ فداك، قال: فقال لي: «أتحبّ بقاءَهم حتّى يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «مَن أحبّ بقاءَهم، فهو منهم، ومَن كان منهم، كان ورد النار»، قال صفوان: فذهبتُ، فبعتُ جمالي عن آخرها[8]...
4. اختراق السلطة
لقد استطاع الإمام (عليه السلام) من خلال بعض شيعته أن يكون على اطّلاع ومقربة من مركز القرار في الخلافة العبّاسيّة، إذ كان له عيونٌ ملاصقة لهارون، ينقلون إليه ما يحصل في الداخل من أحداث وقرارات، وذلك للإحاطة بالوضع السياسيّ والاطّلاع على التدابير السياسيّة التي تحصل في بلاط الخليفة أوّلاً، وثانياً: العمل على قضاء حوائج المؤمنين وخدمتهم ودفع الأذى والقتل عنهم، وثالثاً: التأثير في السياسة العامّة في محاولة إنجاز بعض الأعمال المرتبطة بالصالح العامّ للأمّة الإسلاميّة.
وقد كان من تلك الشخصيّات عليّ بن يقطين، الذي كان وزيراً لهارون، وقد قال له الإمام الكاظم (عليه السلام): «يا عليّ، إنّ لله تعالى أولياءَ مع أولياء الظلمة، ليدفعَ بهم عن أوليائه، وأنت منهم يا عليّ»[9].
في الختام
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حول هذه المرحلة: «هذا المقطع الزماني الممتدّ لـ 35 سنة، من العام 148 للهجرة إلى 183، وهو مرحلة إمامة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، يُعدّ أهم (مقطع) في مسيرة حياة الأئمّة (عليهم السلام)؛ ففيه حَكَمَ اثنان من أكثر سلاطين بني العبّاس اقتداراً: المنصور وهارون، واثنان من أكثرهم تجبّراً: المهديّ والهادي»[10].
«كانت حياة موسى بن جعفر (عليه السلام) مليئة بالأحداث، كانت حياةً جيّاشة. نحن اليوم ننظر فنظنّ أنّ موسى بن جعفر (عليه السلام) هو مجرّد شخص مظلوم، يعيش حياةً هادئةً ومرفّهة في المدينة، فيأتي عمّال الخليفة إليه ويأخذونه إلى بغداد أو إلى الكوفة أو إلى البصرة، لحبسه وتسميمه فيما بعد، فيستشهد وتنتهي الأمور. لم تكن القضيّة هكذا. بل كانت عبارة عن جهادٍ طويلٍ ومواجهة منظَّمة تحوي الكثير من الأفراد. وكان لموسى بن جعفر أتباعٌ في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ يُحبّونه»[11].
[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج1، ص34.
[2] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص16.
[3] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج48، ص153.
[4] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص215.
[5] أي زِد من هذا الحديث والكلام.
[6] احمرّ حمرة فيها سواد عند الغضب.
[7] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص435.
[8] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج17، ص182.
[9] الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي)، ج2، ص731.
[10] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص387.
[11] المصدر نفسه، ص399.