بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين وآله الطيّبين الطاهرين.
إنّ من الآفات الأخلاقيّة الخطيرة والدنيئة، والتي تنتشر على ألسنة بعض الناس في مجتمعاتنا، آفة الشتم والسباب، واستعمال الألفاظ القبيحة والبذيئة.
هذه الآفة، التي لها آثارها السلبيّة على الفرد والمجتمع، والتي توتّر العلاقات الاجتماعيّة، وتثير الضغائن والأحقاد، تزداد خسّةً ودناءةً حينما يتعلّق الكلام الفاحش والسباب بالذات الإلهيّة المقدّسة أو بالدين ورموزه.
نهي الإسلام عن السباب
نهى الإسلام بشدّة عن السبّ والشتم، في رواياتٍ وآياتٍ عديدة، وكره لأتباعه أن يكونوا سبّابين وشتّامين، ووجّههم إلى أنّ غاية ما يمكن لهم أن يفعلوه تجاه تعدّي الآخرين وأفعالهم السيّئة، هو وصف تلك الأفعال والتصرّفات، وبيان حالهم، وما هم عليه، كالجبن أو البخل أو التسرّع، وما شاكل من الصفات أو الأفعال المذمومة... هذا إذا كان في الحقيقة متّصفاً بهذا الفعل، ويُراد نهيه عنه، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم في صفّين: «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ، احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ، واهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَه، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه»[1].
والمفارقة أنّ هؤلاء القوم الذين أمر المؤمنين (عليه السلام) بمعاملتهم على هذا النحو، هم من الأعداء، فكيف ستكون وصيّته (عليه السلام) بالتعامل مع المؤمنين والموالين إذاً؟ وهذا في الحقيقة هو منطق القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[2].
فلا شكّ في أنّ وزر سبّ المؤمن أعظم وأشدّ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): سُباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»[3].
إذا عرفنا ذلك، فما عساه يكون قول الإسلام فيمن يسبّ أئمّةَ المؤمنين ودينَهم وربَّ المؤمنين والعالمين أجمعين؟! فمن المعلوم أنّ عاقبة هذا الأمر وخيمة جدّاً في الإسلام؛ إذ إنّ الذي يتعرّض لهم بذلك يُقام عليه الحدّ إن كان قاصداً لما يقول، أمّا إن كان غير جادٍّ في ذلك، فإنّه يستحقّ التعزير.
وبالطبع، فإنّ مجرّد التذرّع الواهي الذي يطلقه السابّون للذات الإلهيّة بأنّهم فقدوا اختيارهم، لا يعفيهم من وخامة ما فعلوه، ولا ينقص من المترتّبات الشرعيّة على فعلهم شيئاً، إذ إنّ معظم الحالات التي نشهدها في مجتمعنا، تُطلِق -مع الأسف- هذه الشتائم الفاحشة لأقلّ الأسباب.
مناشئ هذه الفاحشة
تتعدّد أسباب وجود هذه الظاهرة ومناشئها، نذكر منها:
1. الجهل
إنّ الجهل لهو المنشأ الأساس لمعظم الآفات الأخلاقيّة، والآفة التي نحن بصددها، سببها في كثير من الحالات الجهل بالحكم الشرعيّ، والجهل بوخامة هذا الفعل وعظمه عند الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله)؛ ولذلك كان للإضاءة على أهمّيّة العلم والتنبيه إلى خطورة الجهل نصيبٌ كبير من الموروث القرآنيّ والروائيّ عن الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام).
كما إنّ المعرفة مقدّمة أساسيّة لخشية الله وعبادته وطاعته، فمن يعرف الله عزّ وجلّ ويعلم حقّه تعالى عليه، ويتفكّر في نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، فلن يُقدِم على عمل مشينٍ من هذا النوع.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فأسألك باسمك الذي ظهرتَ به لخاصّة أوليائك، فوحّدوك وعرفوك، فعبدوك بحقيقتك، أن تعرّفني نفسَك لأقرّ لك بربوبيّتك على حقيقة الإيمان بك، ولا تجعلني -يا إلهي- ممّن يعبد الاسم دون المعنى، والحظني بلحظة من لحظاتك، تنوّر بها قلبي بمعرفتك خاصّة ومعرفة أوليائك، إنّك على كلّ شيء قدير»[4].
ومن لطيف ما قد يُذكر هنا، أنّه حتّى إبليس اللعين، حين تجرّأ على محاربة الله وعصيانه، لم يتعرّض للذات الإلهيّة المقدّسة بالشتم أو السباب، ولعلّ ذلك لسعة اطّلاعه ومعرفته بعظمته تعالى، وإن كانت تلك المعرفة لم تنفعه في تهذيب نفسه وطاعة ربّه، فلاحظ كيف يخاطب ربّ العالمين، حين قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[5].
2. التربية الفاسدة
عندما ينشأ الطفل أو المراهق في بيتٍ يمتلأ بهذا النوع من فواحش السبّ والشتم، أو عندما تترك الأسرة أو المدرسة أبناءها في أجواء فاسدة، وبين أصحاب لا يتورّعون عن مثل هذه الألفاظ الشنيعة، فلا عجب في أن ينشأ الشابّ وهو يمارس هذا النوع من الفواحش.
كيفيّة المواجهة
من أجل مواجهة هذه الظاهرة ومكافحتها وتقليصها قدر الإمكان، لا بدّ من تجفيف منابعها التي تكلّمنا عليها. وعليه، ينبغي رفع المستوى العلميّ في المجتمع، ولا سيّما لناحية التثقيف الدينيّ، من أجل زيادة المعرفة بالله ورسوله والمبادئ الدينيّة السامية، والتي تؤدّي تلقائيّاً إلى احترام الإنسان لهذه المثل العليا، وتحرسه عن التعرّض لها بما يشين.
يجب الانتباه أيضاً إلى البيئة الفاسدة التي يتربّى فيها الإنسان، وأن يحاول الأهل بالتعاون مع المدرسة ومؤسّسات العمل وغيرها من الهيئات الاجتماعيّة، التدخّل لفصل المنحرفين في هذا الجانب عن غيرهم، وأن يعاقبوهم اجتماعيّاً على فعلتهم، ولا أقلّ من إبعاد أولادنا وخواصّنا عن مواطنهم وأماكن تجمّع هذه الفئات المتهتّكة.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[6].
وأخيراً، لا بدّ من إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا المضمار، بمراتبهما المختلفة، من القلب واللسان واليد، على التفصيل المذكور في الرسائل العمليّة، لكي نحقّق أعلى مرتبة من الارتداع عن هذه الموبقة في المجتمع.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الله تعالى ذكره، لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهَون عن منكر»[7].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص323، الخطبة 206.
[2] سورة الأنعام، الآية 108.
[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، الدار الإسلاميّة، ج8، ص610.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج91، ص96.
[5] سورة ص، الآية 82.
[6] سورة التحريم، الآية 6.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج32، ص526.