المعالم العامّة لحركة النبيّ والإمامين المجتبى والرضا (عليهم السلام) في كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين وآله الطيّبين الطاهرين.
تطلّ علينا هذه الجمعة المباركة، ونحن في الأيّام الأخيرة من شهر صفر، أيّام حزنٍ وألمٍ على محبّي الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام)، إذ تصادف فيها ثلاث مناسبات أليمة وعظيمة؛ أوّلها رحيل خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله) في 28 صفر سنة 11 للهجرة، والثانية شهادة حفيده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في 28 صفر سنة 50 للهجرة، والثالثة شهادة الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في آخر صفر سنة 203 للهجرة.
لذا، نرفع أسمى آيات العزاء لمقام صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، ولنائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وللأمّة الإسلاميّة جمعاء، ونغتنم الفرصة لتأدية واجبنا في التوقّف عند شيء من سيرة هؤلاء العظام، والاستفادة من معين أقوالهم وأفعالهم.
أساس حركة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)
يشترك الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) مع الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، في كونهم جميعاً معصومين من قبل الله تعالى، وقد زوّدهم الله بهذه الميزة من بين كلّ المسلمين؛ لكي يكونوا قادة مسيرة الإسلام وحجج الله التامّة على الأمّة المسلمة، وعهد إليهم بفعل كلّ ما يساعد في هداية الناس وتربية الأمّة، وإيصالها إلى كمالها الذي رصده الله لها.
وعلى الرغم من قدر الاشتراك الكبير الذي تعكسه هذه الميزة على شخصيّاتهم وأفعالهم وأقوالهم، لكن وعلى عكس ذلك، كانت ظروفهم الزمانيّة والمكانيّة مختلفةً كثيراً، وهذا ما فرض على الأئمّة (عليهم السلام) العملَ بالتكليف المناسب لكلّ ظرف، والمنسجم مع الهدف الأساس الذي يشتركون فيه. وهذه هي القاعدة التي حكمت عمل الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) طوال حياة كلّ منهم، إلى أن يتوفّاه الله شهيداً.
وهنا، نستفيد من كلمات الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تحليله العميق لحركة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)؛ من أجل الإضاءة على المعالم العامّة لحركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمامين المجتبى والرضا (عليهما السلام).
حركة الرسول (صلّى الله عليه وآله)
يوجز الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) محطّات جهاد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في دعوته، فيقول: «إنّ العمل المهمّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الدعوة إلى الحقّ والحقيقة، والجهاد في سبيل هذه الدعوة. ولم يُبتلَ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأيّ تشويشٍ أو تردّد أمام الدنيا الظلمانيّة في زمانه، سواءٌ في تلك الأيّام الّتي كان فيها في مكّة وحيداً، أم في ذلك الجمع الصغير من المسلمين الّذين أحاطوا به في مواجهة زعماء العرب المتكبّرين من صناديد قُريش وطواغيتهم... أم في ذلك الوقت الّذي تشكّلت فيه الحكومة الإسلاميّة، وكانت السلطة بيده. في تلك الأيّام أيضاً، كان هناك أعداءٌ ومخالفون متنوّعون يواجهون النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، سواء البدو المتفرّقون في صحاري الحجاز... أم ملوك العالم وسلاطينه، الّذين كتب إليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجادلهم، وتوجّه إليهم، وجيّش الجيوش نحوهم، وعانى الصعاب، ووقع في الحصار الاقتصاديّ... لقد كانت التهديدات الكثيرة تُحيط بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) من كلّ حدبٍ وصوب. كان بعض الناس يقلقون، وبعضهم يتزلزلون، وبعضهم يتذمّرون، وبعضهم يلوم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويحثّه على التنازل، إلّا أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يتردّد أو يضعف في ميدان الجهاد هذا، وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بكلّ اقتدار، حتّى أوصله إلى أوج العزّة والقدرة. هذا هو النظام والمجتمع، الّذي استطاع ببركة صمود النبيّ في ميادين الجهاد والدعوة، أن يصبح القوّة الأولى في العالم في السنوات التالية»[1].
ويصف الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) شمائل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعظمة جهاده، فيقول: «إنّ هذا المخلوق الإلهيّ الّذي لا نظير له، وهذا الإنسان الكامل الّذي كان قد بلغ تلك الدرجة من الكمال في هذه المرحلة قبل نزول الوحي، قد شرع منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلةٍ من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثاً وعشرين سنة، وهذا كلّه كان نموذجاً للكفاح والمجاهدة والعمل الدؤوب. لقد كان جهاده (صلّى الله عليه وآله) جهاداً مع نفسه، ومع أُناسٍ لا يُدركون من الحقيقة شيئاً، ومع ذلك المحيط الّذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة واصفاً ذلك: في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا[2]، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا[3]»[4].
حركة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
أمّا الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد عاصر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثماني سنوات تقريباً، وقد أولاه (صلّى الله عليه وآله) مع أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) عناية خاصّة، وترك في المسلمين أحاديث عظيمة ومحفوظة في فضلهما: «الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا»[5]، «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»[6]. كما رأى مظلوميّة أمّه الزهراء (عليها السلام) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصبر وجاهد معهما، إلى أن تولّى الإمامة، وكان أهمُّ مفصل في حياته، أثير حوله الحديث والنقاش، صلحَه مع معاوية.
على الأساس الذي تقدّم في فهم حركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، يصبح استيعاب أمر الصلح مع معاوية ميسوراً ومقبولاً، إذ إنّ الإمام (عليه السلام) لم يقم في ذلك الحين وفي ذلك الظرف، إلّا بما تمليه عليه مصلحة الإسلام ويفرضه الواجب الشرعيّ. يوضّح الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ذلك، فيقول: «كان الصّلح مفروضاً، وقد وقع في النهاية، ولكنّ الإمام لم يكن راغباً به. وتلك الشروط الّتي أقرّها الإمام، في الواقع، زلزلت أُسس عمل معاوية. فالصلح بذاته وشروط الإمام الحسن (عليه السلام)، كانت جميعها مكراً إلهيّاً، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ﴾[7]؛ أي لو أنّ الإمام الحسن حارب وقُتل في الحرب -وكان هناك احتمالٌ كبير لأن يُقتل على أيدي أصحابه أو أيدي الجواسيس الّذين اشتراهم معاوية- لقال معاوية: أنا لم أقتله، بل قتله أصحابه! ولعلّه كان سيقيم العزاء عليه أيضاً، ويبيد جميع أصحاب أمير المؤمنين من بعدها، ولما كان بقي هناك أيّ شيء باسم التشيّع، حتّى تظهر بعد 20 سنة في الكوفة جماعة تدعو الإمام الحسين (عليه السلام). فما كان ليبقى أيّ شيء أصلاً. لقد حفظ الإمام الحسن الشيعة؛ أي إنّه حفظ البناء»[8].
حركة الإمام الرضا (عليه السلام)
أمّا الإمام الرضا (عليه السلام)، فقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكانت التشكيلات الشيعيّة السرّيّة قد بلغت أوج قوّتها، وبدأت تشكّل تهديداً جدّيّاً للسلطة العباسيّة، الّتي أصيبت بخضّة كبيرة في حرب الأمين والمأمون من أجل الحكم.
في تلك الظروف حاول المأمون العباسيّ أن يقوم بحركة من شأنها تقويض مفاعيل الغليان الشيعيّ والحبّ المتوقّد في نفوسهم لأئمّتهم، بأن يجبر رأسَهم، وهو الإمام الرضا (عليه السلام)، على قَبول ولاية العهد، وهو أرفع منصب بعد الخلافة، وبهذا يفصل الإمامَ (عليه السلام) عن القواعد المؤمنة به وبنزاهته.
لكنّ الإمام (عليه السلام) أفشل مشروع المأمون بحنكته وتدبيره، إلى أن اضطر الأخير إلى ارتكاب جرمٍ يندى له جبين التاريخ، وهو تسميم الإمام الرضا (عليه السلام)!
في هذا الصدد، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لقد جعل المأمونُ عليَّ بنَ موسى (عليه السلام) متمتّعاً بالإمكانات والمكانة المرموقة، لكنّ الجميع كانوا يعلمون أنّ هذا الوليّ للعهد، وصاحب المقام الرفيع، لا يتدخّل في أيٍّ من أعمال الحكومة... وبعد أن كان قسمٌ من الناس لا يعرف عن الإمام (عليه السلام) سوى اسمه، فقد أصبح في غضون سنة معروفاً عندهم بأنّه شخصيّة تستحقّ التعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة... وبعد مضيّ سنة، ليس أنّ المأمون لم يستطع كسب ودّ الشيعة المعارضين ورضاهم بجلب الإمام (عليه السلام) إلى قربه فحسب، بل إنّ الإمام (عليه السلام) قام بدورٍ أساس في تقوية إيمان أولئك الشيعة الثائرين وعزيمتهم وروحيّتهم. وبخلاف ما كان ينتظره المأمون، فإنّ نجم الإمام في المدينة ومكّة وفي أهمّ الأقطار الإسلاميّة لم يخبُ، ولم يُقذف بتهمة الحرص على الدنيا وحبّ الجاه والمنصب، بل على العكس تماماً، فقد ازداد احترام مرتبة الإمام المعنويّة وتقديرها لدرجة فتحِ الباب أمام المدّاحين والشعراء ليذكروا فضل آبائه المعصومين المظلومين ومقامهم... أمام هذا الواقع الّذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة، ولكي يُعوِّض عنها، ويَجبُر خطأه الفاحش، وجد نفسه مضطرّاً، بعد أن أنفق كلَّ ما لديه، واستنفذ كلَّ الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الّذين لا يقبلون الصلح؛ أي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، إلى استخدام الأسلوب نفسه الّذي لجأ إليه دوماً أسلافه الظالمون والفجّار، أي القتل»[9].
[1] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص30.
[2] الأظلاف: جمع ظلف (بالكسر) للبقر والشاء وشبههما، كالخفّ للبعير، والقدم للإنسان. السنابك: جمع سنبك كقنفذ، طرف الحافر.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص47، الخطبة 2.
[4] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص32.
[5] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص211.
[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص36.
[7] سورة آل عمران، الآية 54.
[8] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص168.
[9] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص429 – 432.