بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، الرسول الأعظم، سيّد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[1].
تتعرّض هذه الآية لحادثة مفصليّة في تاريخ الإسلام، بل وفي مجمل حركة أولياء الله التاريخيّة على الأرض، وهي حادثة هجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة المكرّمة إلى يثرب، الّتي سُمّيت بعد قدومه إليها المدينة المنوّرة، وذلك في السنة الثالثة عشرة للبعثة؛ فما أبعاد هذه الهجرة وأسبابها؟ وكيف نحلّلها في سياق سنن التاريخ الإلهيّة الحاكمة على حركة أولياء الله في الأرض؟
قصّة الهجرة
يذكر لنا التاريخ أنّ نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة، وتباحثوا في أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقال بعضهم: «نتربّص به رَيْبَ المنون»، وقال آخر: «أخرجوه عنكم، تستريحوا من أذاه»، وقال أبو جهل: «ما هذا برأي، ولكن اقتلوه؛ بأن يجتمع عليه من كلِّ بطن رجلٌ، فيضربوه بأسيافهم ضربة رجلٍ واحد، فيرضى بنو هاشم حينئذٍ بالدية»، وزيّن لهم إبليس هذا الرأي...
اتّفقوا على هذا الرأي، وأعدّوا الرجال والسلاح، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بنيّة قومه، فخرج إلى غار ثور، وأمر عليّاً (عليه السلام) بأن يبيت في فراشه. فلمّا أصبحوا وفتّشوا عن الفراش، وجدوا عليّاً (عليه السلام)، فباءت خطّتهم بالفشل؛ فاقتصّوا أثره، وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار، رأَوا على بابه نسجَ العنكبوت الّتي أرسلها الله معجزةً لحفظ نبيّه (صلّى الله عليه وآله)، فظنّوا أنّ الغار لم يدخله أحد. فمكث (صلّى الله عليه وآله) في الغار ثلاثاً، ثمّ قدِم المدينة[2].
ومن المعلوم بركات هذه الهجرة العظيمة على الإسلام، فقد دخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المدينةَ بعد أن انتظر لحوقَ أمير المؤمنين (عليه السلام) به مع الفواطم خارجها، وقلب المدينة رأساً على عقب؛ فأنهى الصراع بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ووضع دستوراً -عُرف بميثاق المدينة- ينظّم أحوالها وعلاقاتها بالآخرين من اليهود وغيرهم، وبنى المسجد، وجعله مركزاً لحكومته وتبليغ دينه.
الدروس التربويّة المستفادة من حادثة الهجرة
وهنا دروسٌ وعِبرٌ جمّة، يمكن استفادتها من هذه الهجرة المباركة، نذكر منها:
1. على المؤمنين الصبر وانتظار نصر الله وفرجه؛ فكلّما اشتدّت وطأة الضغط من الأعداء، أيّد الله المؤمنين بنصره من حيث لا يحتسبون. فانظر كيف أصبحت الهجرةُ الّتي كانت هروباً من بطش قريش وظلمها، فاتحةَ عهدٍ جديد وقويّ للإسلام والمسلمين.
2. إنّ الكفار وأعداء الله يستعملون شتّى أنواع الحيل وأساليب المكر ليوقعوا بالأولياء الصالحين، كالسجن والنفي والقتل، لكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّهم مهما اجتهدوا في مكرهم واحتيالهم فلن يستطيعوا أن يتجاوزوا مكر الله؛ بمعنى تدبيره وتخطيطه الّذي يُفشِل مؤامراتهم. لذا، على المؤمنين أن لا يخيفهم مكر الأعداء وما يتبجّحون به من قدرات وإمكانيّات؛ فإنّ قدرة الله فوق كلّ ما يملكون، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[3].
3. يهيِّئ الله النصر للمؤمنين بأبسط الأسباب وأقلّها، كما في العنكبوت الّتي نسجت خيوطها على باب غار ثور. وهكذا كان الله ينصر أولياءه على أعدائه، ويذلّهم بأضعف مخلوقاته، كالجراد والقمّل والضفادع والريح الّتي أرسلها الله عذاباً لأقوام من أعداء الأنبياء (عليهم السلام): ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾[4]، ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾[5].
ولَكَمْ حدّثنا القرآن الكريم عن تسخير الله لأضعف مخلوقاته من أجل أداء مهامّ عظيمة، فنجد:
- الغراب يعلّم ابن آدم كيف يدفن أخاه ويواري سوءته بعدما أعيته الحيل، قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾[6].
- الهدهد يطّلع على ما لم يطّلع عليه ملك الزمان ونبيّه سليمان (عليه السلام)، ويحمل رسالته إلى ملكة سبأ؛ ليكون سبباً في هدايتها وهداية قومها، قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾[7].
- الأرَضة (دابّة الأرض) تأكل عصا سليمان (عليه السلام) الّتي كان متّكأً عليها حين موته؛ لتُعلم الخلقَ بموته، وتعطيهم درساً في التواضع والاعتراف بالعجز أمام قدرة الله، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾[8].
- طيراً أبابيل تبيد جيش أبرهة وفيلته الّتي أرعب بها العالم آنذاك، وتغطرس وتجبّر بها على الخلق، كما نزلت بهذا الشأن سورة الفيل.
- أَرَضَةً بسيطة تأكل صحيفة المشركين الّتي تعهّدوا فيها بأن يحاصروا بني هاشم في شعب أبي طالب، وأودعوها في الكعبة، وكانت نهاية هذا الحصار الشديد بفعل تلك الأرَضة الّتي أكلت كلّ ما في الصحيفة ما عدا اسم الله عزّ وجلّ.
4. على المسلم الحقيقيّ أن يكون مستعدّاً للفداء والتضحية في سبيل الله حين يُطلب منه ذلك، كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) بمبيته في فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فادياً إيّاه بنفسه، فحصد بذلك لقبَ أوّل استشهاديٍّ في الإسلام، لا أن يكون همُّ المسلم نيلَ المكاسب المادّيّة والمواقع الدنيويّة في حركته مع أهل الإيمان.
موقع الهجرة في سنن التاريخ
إنّ حركة الإصلاح الّتي يقوم بها الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) تفترض الوثوب والظهور والحضور الكثيف تارةً، والغيبة والهجرة تارةً أخرى. ويمكن التعبير عن الهجرة أو الغيبة بأنّها عمليّة انحسارٍ أو انكفاءٍ عن ساحة المجتمع الفاسد، لا للهروب، ولكن لإعادة التموضع، وتأمين حرّيّة الحركة، والتجهّز بالقوّة اللازمة خارج رقابة المجتمع الفاسد وضغطه، بما يسمح لحركة الإصلاح بأن تستعيد عافيتها ودورها من جديد. ويمكن التعبير عن ظواهر الغيبة والهجرة بأنّها سننُ الانحسار في الخطّ الإلهيّ، مقابل سنن البروز والتصدّي.
وإنّ كلا الحركتين، الإصلاحيّة والإفساديّة، تستغلّ الساحات والعوالم كلَّها لأجل تحقيق بروزها، وحيث ما تكمن وتستتر في ساحة ما، فإنّها تنشط في ساحةٍ أخرى، لتعود وتسيطر على مجمل الساحات. فإبليس طُرد من ساحة، فأخذ يعمل في ساحة أخرى، وكذا أتباعه من الكافرين والمنافقين والفاسقين. وهذا حال الخطّ المقابل، خطّ الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع أتباعهم، يستغلّون كلّ قابليّة للإصلاح في ساحةٍ، فإذا ما يئسوا منها أو طُرِدوا أو لوحقوا، لجؤوا إلى العمل في ساحاتٍ أخرى. وهنا قد يتّخذ الانتقال إلى الساحات الأخرى ضمن سنن الكُمُون والانحسار أشكالاً ومستويات عديدة، وفق ما تقتضيه السنن والنواميس العامّة للحركة الاجتماعيّة، ومقتضيات الهداية واللطف الإلهيَّين.
ومن هذه الأساليب الّتي استخدمها أولياء الله في تاريخ حركتهم أسلوب الهجرة الّذي يتمثّل بالانتقال من دار ظلمٍ أو ساحةٍ يكاد يختنق فيها صوت الحقّ، إلى دار تتوفّر فيها أسباب الأمن والحرّيّة للرسالة؛ لكي تتجهّز وتستعدّ وتتقوّى، وقد تُوفّق من خلال ذلك لنشر التوحيد والإيمان في الدار الأولى الّتي هاجرت منها.
وهجرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ليست بدعاً من حركة الأنبياء عبر التاريخ، فقد مارس العديد من الأنبياء هذه الحركة، كما في هجرة إبراهيم (عليه السلام) من أرض النمرود، وهجرة يوسف (عليه السلام) القسريّة إلى مصر، وهجرة موسى (عليه السلام) إلى مدين، وكذلك هجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب، وهجرة أصحابه إلى الحبشة أيّام الدعوة المكّيّة.
وهذا الأسلوب قد يصل في مراحله القاسية جدّاً إلى مستوى يضطرّ معها وليّ الله إلى وضع الوكلاء والنوّاب عنه؛ لكونه لا يستطيع الاتّصال المباشر بالناس، بسبب ظلم الحكّام والأبالسة كما حصل في زمن الإمام العسكريّ (عليه السلام)، والّذي بالمناسبة تفصلنا عن شهادته أيّام معدودة، إذ استشهد (عليه السلام) في الثامن من ربيع الأوّل، وسلّم الإمامة إلى ولده القائم المنتظر (عجّل الله فرجه) في أصعب ظروف الحصار والملاحقة، والّتي اضطرّ (عجّل الله فرجه) معها إلى التواري عن الأنظار، فكانت الغيبة الصغرى، ثمّ الغيبة الكبرى، ريثما تتحضّر الظروف لعودة بزوغ شمس الأولياء على الأرض من جديد.
اللهمّ عجّل لوليّك الفرج والنصر والعافية، ونحن في خير منك وعافية، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1]سورة الأنفال، الآية 30.
[2]راجع: الشيخ الصدوق، الخصال، ص366 - 367؛ الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، ج4، ص457 - 458.
[3] سورة آل عمران، الآية 54.
[4] سورة الأعراف، الآية 133.
[5] سورة فصّلت، الآية 16.
[6] سورة المائدة، الآية 31.
[7] سورة النمل، الآيتان 22-28.
[8] سورة سبأ، الآية 14.