بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك في هذه الأيّام، بذكرى الولادة المباركة للإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، الإمام أبي محمّد الحسن العسكريّ (عليه السلام).
أبوه الإمام العاشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أبو الحسن عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام)، وأمّه أمّ ولد، يُقال لها: حديث، أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات، وكفى في فضلها، أنّها كانت مفزع الشيعة بعد شهادة الإمام العسكريّ[1]، والمشهور أنّه لم يكن له (عليه السلام) من الولد سوى الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه)[2].
وُلد (عليه السلام) في المدينة، في الثامن من ربيع الآخِر سنة 232هـ، وكان من ألقابه: التقيّ، المرضيّ، النقيّ، الزكيّ، الهادي، العسكريّ[3].
تولّى مهامّ الإمامة بعد أبيه، واستمرّت إمامته ستّ سنوات تقريباً، مارس فيها مسؤوليّاته الكبرى في أحرج الظروف وأصعب الأيّام على أهل بيت الرسالة، بعد أن عرف الحكّام العبّاسيّون -وهم أحرص من غيرهم على استمرار حكمهم- أنّ المهديّ من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه من ولد عليّ والحسين (عليهما السلام).
وكانت شهادته يوم الجمعة، في الثامن من ربيع الأوّل سنة 260هـ، وعمره 28 عاماً، ودُفن مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في سامرّاء.
حياة الإمام العسكريّ (عليه السلام)
تنقسم حياة الإمام العسكريّ (عليه السلام) إلى مرحلتين متميّزتين؛ الأولى هي تلك التي قضاها (عليه السلام) في ظلال إمامة أبيه الإمام الهادي (عليه السلام)، والتي تَقْرُب من 22 سنة، منتهيةً باستشهاد أبيه سنة 254هـ.
أمّا المرحلة الثانية، فهي أيّام إمامته حتّى شهادته، والتي تبدأ من سنة 254هـ إلى سنة 260هـ، وهي مرحلة حافلة بأحداث مهمّة ومفصليّة، على الرغم من قصرها.
عاصر فيها ثلاثةً من الخلفاء العبّاسيّين؛ المعتزّ والمهتدي والمعتمد، وتبرز مدى أهمّيّتها في تصوّر أهمّيّة مرحلة الغيبة الّتي كان لا بدّ للإمام العسكريّ (عليه السلام) من القيام بالتمهيدات اللازمة فيها؛ لنقل شيعته من مرحلة الحضور إلى مرحلة الغيبة الّتي يُراد من خلالها حفظ الإمام المعصوم وحفظ شيعته.
التواصل مع شيعته
لذا، وبعد اتّساع رقعة التشيّع في عهده (عليه السلام)، ووجود الشيعة بأكثر من بلد في العالم، عمِل الإمام (عليه السلام) على إيجاد وسيلة للتواصل المنظَّم، تؤمّن اتّصال الشيعة بالإمامة من جهة، واتّصالهم ببعضهم بعضاً من جهة أخرى، ويتمّ من خلال ذلك توجيههم دينيّاً وسياسيّاً وتعبويّاً، فقام (عليه السلام) بتعيين بعض الأشخاص في مناطق متعدّدة ليكونوا حلقة الوصل بين الإمام وشيعته، وبين الشيعة أنفسهم، منها على سبيل المثال ما فعله مع إبراهيم بن عبده، إذ أرسل رسالة إلى عبد الله بن حمدويه البيهقيّ، يقول فيها: «وبعد، فقد نصبتُ لكم إبراهيمَ بن عبده، ليدفع إليه النواحي وأهلُ ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم، وجعلتُه ثقتي وأميني عند مواليّ هناك؛ فليتّقوا الله جلّ جلاله، وليراقبوا وليؤدّوا الحقوق، فليس لهم عذرٌ في ترك ذلك ولا تأخيرِه. لا أشقاكم الله بعصيان أوليائه، ورحمهم وإيّاك معهم برحمتي لهم، إنّ الله واسع كريم»[4].
التمهيد للغيبة
وبذلك كان العمل على التمهيد للإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) وغيبته الصغرى، ثمّ الغيبة الكبرى، والارتباط الصحيح به، وانتقال الشيعة من الاتّصال المباشر بالمعصوم إلى الاتّصال غير المباشر. وتُعَدّ هذه المرحلة من أدقّ المراحل على الفكر الشيعيّ، منذ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) إلى عهد الإمام العسكريّ (عليه السلام)؛ لذلك كان على الإمام أن يكثّف أحاديثه، وأن يقوم عمليّاً بالتمهيد للغيبة، فكان (عليه السلام) يحرص على النصّ على الإمام (عجّل الله فرجه) وتعريف شيعته به. عن محمّد بن عبد الجبّار، قال: قلتُ لسيّدي الحسن بن عليّ (عليهما السلام): يابن رسول الله، جعلني الله فداك، أحبّ أن أعلم مَنِ الإمام وحجّة الله على عباده من بعدك؟ فقال (عليه السلام): «إنّ الإمام من بعدي ابني، سَميّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكنيُّه، الّذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه».
قال: ممّن هو يابن رسول الله؟ قال (عليه السلام): «من ابنة قيصر ملك الروم، ألا إنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر»[5].
وعن يعقوب بن منقوش، قال: دخلتُ على أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام)، وهو جالس على دكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مُسْبَل، فقلت: سيّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسيّ، له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّيّ المقلتين، شَثْن الكفّين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام)، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب، فقال له: «يا بُنيّ، ادخل إلى الوقت المعلوم»، فدخل البيت، وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، انظر مَن في البيت»، فدخلتُ فما رأيت أحداً[6].
قبس من مكارم أخلاقه وعبادته
برزت في حياة الإمام العسكريّ (عليه السلام)، على الرغم من المراقبة الشديدة والقاسية الّتي وضعها حكّام عصره عليه، خدمتُه الناس، واهتمامه بهم، يقول أَبُو الْعَيْنَاءِ الْهَاشِمِيُّ، مَوْلَى عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ عَتَاقَةً: كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَأَعْطَشُ وأَنَا عِنْدَه، فَأُجِلُّه أَنْ أَدْعُوَ بِالْمَاءِ، فَيَقُولُ: «يَا غُلَامُ، اسْقِه»، ورُبَّمَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالنُّهُوضِ، فَأُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: «يَا غُلَامُ، دَابَّتَه[7]»[8].
وكان (عليه السلام) كثير العبادة لله سبحانه وتعالى، يقوم الليل ويصوم النهار، وقد كان الإمام تحت المراقبة الشديدة، وقد تأثّر به الكثير من الناس. يُروى أنّه دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد (عليه السلام)، يطلبون منه التضييق على الإمام (عليه السلام)، فقال لهم: وما أصنع؟! قد وكّلت به رجلين من أشرّ مَن قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟! فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين[9].
وكان كثير الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومن مواعظه قوله: «أورع الناس من وقف عند الشبهة، أعبد الناس من أقام على الفرائض، أزهد الناس من ترك الحرام، أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب»[10]. فسلامٌ عليه يوم وُلد، ويوم استشهد، ويوم يُبعثُ حيّاً.
[1] الشيخ عبّاس القمّيّ، الأنوار البهيّة، ص303.
[2] راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص339.
[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص230.
[4] الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص797.
[5] الميرزا النوريّ، النجم الثاقب، ج1، ص136.
[6] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص407.
[7] أي أحضر يا غلام دابّته.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص512.
[9] المصدر نفسه.
[10] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص489.