بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، الرسول الأعظم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
جاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «حقدُ المؤمنِ مقامُه، ثمّ يفارقُ أخاه، فلا يجدُ عليه شيئاً، وحقدُ الكافرِ دهرُه»[1].
الحقد إضمار العداوة في القلب وإمساكها، وهو من آفات القلوب الّتي لا يقتصر ضررها على صاحبها فحسب، بل تتعدّاه لتؤذي المجتمع أيضاً، فتُورِث العداوة والبغضاء بين أفراده.
إنّه من الأمراض النفسيّة المُهلِكة، ومن الرذائل الّتي تحجب النفس عن الاستضاءة بأنوار الحقّ، وهو ألأم العيوب، بل رأسها، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقد ألأم العيوب»[2]، و«رأس العيوب الحقد»[3]؛ وذلك لما فيه من السوء المُضمَر تجاه المحقود عليه، والتربّص به؛ لإيذائه والنيل منه حين تسنح الفُرص. فهو عداوة باطنة تنطوي على نيّة غدرٍ وانتقام، وقد تتحوّل إلى عداوة ظاهرة عندما يضعف المحقود عليه أو يقوى الحاقد.
أصله ومنشؤه
ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقد مَثَارُ الغضب»[4].
يقول الشهيد الثاني: الحقد نتيجة الغضب، فإنّ الغضب إذا لُزِمَ كظمُهُ، لعجزِه عن التشفّي في الحال، رجع إلى الباطن، واحتقن فيه، فصار حقداً[5].
فالغضب الّذي لا يقدر الإنسان على شفائه، يعتمل في قلبه، فيصبح حقداً؛ لذا عبّرت الروايات عن الحقد، كما عبّرت عن الغضب، بأنّه نار، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقد نارٌ لا تُطفأ إلّا بالظفر»[6]، وذلك إشارة إلى أنّ الحقود لا يذهب حقده ما لم يشفِ غليله وغيظه بالنيل من مبغوضه.
إذاً، ثمّة علاقة وطيدة بين آفتين، الحقد والغضب، ولعلّهما يتبادلان التأثير؛ فيغذّي أحدهما الآخر. وعليه، فإنّ كلّ سبب يمكن تصوّره للغضب هو بنفسه سببٌ للحقد؛ لأنّ الإنسان إذا تعرّض لما يغضبه، فإمّا أن يستطيع إنفاذ غضبه، أو لا يستطيع لمانعٍ ما، فيحقد مؤجِّلاً شفاء غيظه إلى حين التمكّن. وبالتالي، كلّما تمكّنت أسباب الغضب من الإنسان، تمكّنت منه أسباب الحقد، وكلّما قلَّ الرادع الدينيّ والأخلاقيّ عند الإنسان، كان أقرب إلى أن يكون حقوداً، وهل يعني ذلك سوى كونه شرّيراً وسلاحه الحقد؟! عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «سلاح الشرّ الحقد»[7].
آثاره
والحقد يلزم منه الكثير من الآفات والعيوب، كما ذكر علماء الأخلاق، كيف لا؟! وقد عدّه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رأسَ العيوب، ومن تلك الآفات والآثار التي يثمرها:
1. الحسد، إذ يحملك الحقد على أن تتمنّى زوال النعمة عمّن تحقد عليه، فتُسَرّ بما ينزل به من مصائب، وتغتمّ بما يصيبه من نِعَم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقد شيمة الحَسَدَة»[8].
2. الشماتة بما أصابه من ابتلاءاتٍ ومِحن.
3. الإعراض عنه، وعدم صلته، فيجهره ولا يزوره أو يكلّمه.
4. الكلام فيه بما لا يحلّ له، من غيبةٍ، وهتكٍ لستره، وإفشاءٍ لأسراره.
5. تحقيره وإهانته والاستهزاء به، وإيذاؤه بقولٍ أو فعلٍ حيث يمكن له ذلك.
6. إنكار حقوقه، أو منعها، أو تعطيل حصوله عليها...
وهذا كلّه يُوجِب الفتنة والشقاق، ويلخّصه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «سبب الفتن الحقد»[9].
وإن احترز الحاقد عن هذه الآفات كلّها، ولم يتورّط بأيٍّ منها، ولم يرتكب ما يُعصى الله به، فإنّ أقلّ ما يتورّط به من درجات الحقد أن يستثقل المحقود عليه ويبغضه في قلبه، وهذا أضعف مراتبه؛ فيمتنع بذلك عمّا ينبغي بين المسلمين من البِشر والرفق والعناية وحسن المعاملة وقضاء الحوائج والمواساة وغيرها؛ وهذا الأمر يُفسِد دين المرء، ويحول بينه وبين الثواب العظيم، وإن لم يُوجِب العقاب.
هذا فضلاً عن أنّ الحقدَ بذاته عذابٌ للحاقد، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقود معذَّب النفس متضاعف الهمّ»[10]، وعن الإمام العسكريّ (عليه السلام): «أقلّ الناس راحة الحقود»[11].
علاجه
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «طهّروا قلوبَكم من الحقد؛ فإنّه مرضٌ موبئ»[12].
ينبغي للمؤمن أن يعمل جاهداً على تطهير قلبه من الحقد، وإخراج الغلّ والضغينة من صدره؛ فإنّه مرضٌ يفتك بإنسانيّته. وممّا يساعد المرء على تطهير قلبه من هذه الآفة أمور، نذكر منها:
1. الاستعانة بالله: يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[13].
2. العتاب: عن الإمام الهادي (عليه السلام): «العتاب خير من الحقد»[14]. فمن المفيد أن يعاتب المرء أخاه على ما يزعجه منه، بدلاً من أن يخبِّئه في نفسه، لكن ينبغي أن يكون العتاب باقتصاد، لا يزيد عن الحدّ؛ كي لا يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة، فيُورث الحقد، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «واحتمل أخاك على ما فيه، ولا تُكثِر العتاب؛ فإنّه يورث الضغينة، ويجرّ إلى البغضة»[15].
3. التبسّم وبِشر الوجه: عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): حسن البِشر يُذهب بالسخيمة»[16].
4. المواساة في الشدائد: فإنّ مساندةَ المرء أخاه في الشدائد والمصائب تُذهب بالأحقاد من القلوب، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «عند الشدائد تذهب الأحقاد»[17].
في الختام، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِه مِنْ صَدْرِكَ»[18]؛ فعلى الإنسان أن يُضمر الخير للآخرين؛ فهم لنا كما نحن لهم، وإذا أردنا معرفة مشاعرهم نحونا، فعلينا أن ننظر في قلوبنا، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «اعرف المودّة في قلب أخيك بما له في قلبك»[19]. ومن جهة أخرى، عندما يعالج المرء نفسَه بعدم إضمار الشرّ والبغض والعداوة للآخرين، فسيعلّمهم بسلوكه العمليّ أن لا يحقدوا، بل أن يحملوا المشاعرَ النبيلة تجاه الآخرين.
يقول العلّامة النراقيّ: فليجتهد (أي الحاقد) في أن يعاملَه (أي المحقود عليه) معاملة أحبّائه؛ من مصاحبته بالانبساط والرفق، والقيام بحوائجه، وغير ذلك، بل يخصّه بالبرّ والإحسان، مجاهدةً للنفس وإرغاماً للشيطان، ولا يزال يكرّر ذلك حتّى ترتفعَ عن نفسه آثارُ هذه الرذيلة بالكلّيّة[20].
يوم الشهيد
أخيراً، لا ننسى في هذا اليومِ المبارك، يومِ الشهيد، أولئك الأبطالَ الذين أفرغوا قلوبَهم من كلّ حقدٍ وغلٍّ وضغينة، ووجّهوا غضبَهم تجاه عدوّهم وعدوّ أمّتهم ودينهم، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[21]، قدّموا أعلى درجات البرّ والمعروف، وجادوا بأعظم ما يملكون، لنعيش بعزٍّ وكرامة ورفعة. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فوق كلِّ ذي برٍّ برّ، حتّى يُقتَلَ الرجلُ في سبيل الله، فإذا قُتِل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[22].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الشهادة هي القمّة، والقمّة من دون المنحدر لا معنى لها، فكلّ قمّة لها منحدر. الكثير منّا، لديه أمنية الوصول إلى تلك القمّة، فعلينا عبور المنحدر، وأن نجد المسار في منحدر تلك القمّة، وأن نسلك ذلك المسار لنصلَ إليها؛ وإلّا يكون الوصولُ إلى القمّة غيرَ ممكن. ما هذا المنحدر والمسار؟ إنّه الإخلاص، إنّه الإيثار، إنّه الصدق، إنّه المعنويّة، إنّه المجاهَدة، إنّه الصفح، إنّه التوجّه إلى الله، إنّه العمل من أجل الناس، إنّه السعي من أجل العدالة، إنّه السعي من أجل إرساء حاكميّة الدين. هذه الّتي تحدّد المسار، وإن مشيتم في هذا المسار، فقد تصلون إلى القمّة»[23].
[1] ابن إدريس الحلّيّ، مستطرفات السرائر، ص634.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص41.
[3] المصدر نفسه، ص264.
[4] الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج1، ص648.
[5] الشهيد الثاني، مُنية المريد، ص321.
[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص66.
[7] المصدر نفسه، ص284.
[8] المصدر نفسه، ص33.
[9] المصدر نفسه، ص281.
[10] المصدر نفسه، ص59.
[11] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص488.
[12] الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج1، ص648.
[13] سورة الحشر، الآية 10.
[14] الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج1، ص648.
[15] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص84.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص104.
[17] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص337.
[18] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص501، الحكمة 178.
[19] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص295.
[20] العلّامة النراقيّ، جامع السعادات، ج1، ص275.
[21] سورة الفتح، الآية 29.
[22] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص53.
[23] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 16/10/2021م.