بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
الاختبار والثبات
يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[1].
تتكلّم الآية القرآنيّة الكريمة على حقيقةٍ إلهيّة وسنّةٍ كونيّة، هي سُنّة الاختبار والامتحان؛ فالإنسان في حياته لا يعيش بوتيرة واحدة، بل تختلف أحواله من فقرٍ إلى غنى، ومن صحّةٍ إلى مرض، ومن حربٍ إلى سلام، ومن غضبٍ إلى سكينة... إذ يكون عرضة للاختبار طيلة حياته كي يُعلَم الثابتون من المتزلزلين؛ فلا يكون المرء مؤمناً في الفقر، عاصياً في الغنى، أو العكس، ولا يكون قريباً من الله في المرض، بعيداً عنه في الصحّة، أو العكس، بل إنّ إيمانَ الإنسان ينبغي أن يكون ثابتاً في الأحوال كافّة، سلبيّةً كانت أم إيجابيّة، إلى حين احتضاره ومعاينته أمارات الموت، فيُسلِم الروح لبارئها طاهرة نقيّة، وتكون عاقبته على خير؛ لذا كان على الإنسان أن يخشى تلك اللحظة، ويحرَص على حسن العاقبة وجميل الختام، وهذا لا يُعلَم إلّا وقت نزع الروح وظهور ملك الموت، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصولَ إلى رضوان الله، حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له»[2].
الأعمال بخواتيمها
إذاً، فملاك العمل بخواتيمه، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ العبد ليعمل عمل أهل الجنّة في ما يرى الناس، وإنّه لمن أهل النار، وإنّه ليعمل عمل أهل النار في ما يرى الناس، وإنّه لمن أهل الجنّة، وإنّما الأعمال بالخواتيم».[3]
وأساس البناء يكون في آخر حجر يضعه العامل، لا في الحجر الأوّل، كما عن نبيّ الله عيسى (عليه السلام): «إنّ الناس يقولون: إنّ البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك»، قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: «بحقٍّ أقول لكم: إنّ آخر حجر يضعه العامل هو الأساس»[4].
وإنّ سعادة المرء أو شقاءه إنّما يكونان في الختام، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ حقيقةَ السعادة أن يُختم للمرء عملُه بالسعادة، وإنّ حقيقةَ الشقاء أن يُختم للمرء عملُه بالشقاء».[5]
الإيمان قسمان
وقبل الكلام على ما يوجب حسن العاقبة، لا بدّ من الإشارة هنا إلى قسمي الإيمان في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ يقول: «فَمِنَ الإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، ومِنْه مَا يَكُونُ عَوَارِيَ بَيْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»[6].
يقسّم أمير المؤمنين (عليه السلام) هنا الإيمان إلى قسمين[7]:
الأوّل إيمانٌ حقيقيّ، ثابتٌ مستقرٌّ في القلب، راسخٌ في النفس، لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف، لا يزلّون في الدنيا إذا افتُتِنوا في دينهم، ولا يلتئمون في الآخرة إذا سُئلوا عن معتقدهم، وفيهم يقول تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ﴾[8].
والثاني إيمانٌ متزلزل، غير راسخ، يزول بتشكيك المشكّك وتفتين المفتِّن، وقد شبّهه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعواري لكونه في معرض الزوال، فإنّ العارية تكون في معرض الردّ والاسترجاع. وقد جعل (عليه السلام) هذا الإيمان إلى أجلٍ معلوم؛ إذ إنّ من شأن العارية أن تُستعار إلى وقتٍ معيّن، ويُحتمل أن يكون المراد أنّ بقاءَه في القلوب مستمرٌّ إلى وقت معيّن عند الله سبحانه، وأجل معلوم تعلَّقت مشيئته ببقائه فيها إليه، فقد تحصّل من ذلك أنّ الايمان على قسمين؛ مستقرّ ومستودع.
من أسباب حسن العاقبة
من هنا، كان على الإنسان أن يسعى جاهداً كي يثبت على الإيمان ولا يتزلزل، فلا يكون إيمانه مؤقّتاً مُعاراً. وللثبات على الإيمان وحسن العاقبة أسباب، نذكر منها:
1. اليقين: على المؤمن أن يترقّى في إيمانه، فلا يقنع بالدرجات الدنيا، إلى أن يبلغ درجة اليقين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «واسألوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العاقبة، وخير ما دار في القلب اليقين»[9].
2. التقوى: فملازمة طاعة الله والبُعد عن معصيته، من الأمور المهمّة للثبات وحسن الختام، يقول تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾[10]، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[11]، ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾[12].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّه بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا، وإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ»[13].
3. موالاة أهل البيت وعدم تكذيبهم: يبيّن الإمام الكاظم (عليه السلام) كيف أنّ أحدَهم كان إيمانُه مُستَودَعاً، فلمّا كَذَب على أهل البيت (عليهم السلام) بسوء اختياره سُلِبَ الإيمان، فيقول (عليه السلام): «إنّ اللهَ خلق النبيّين على النبوّة فلا يكونون إلّا أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين، وأعار قوماً إيماناً، فإن شاء تمّمه لهم، وإن شاء سلبهم إياه»، قال: «وفيهم جرت ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾»، وقال: «إنّ فلاناً كان مُسْتَوْدَعاً إيمانُه، فلمّا كَذَب علينا، سُلِب إيمانُه ذلك»[14].
4. عدم اتّباع الهوى والبدع: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «المداومة على العمل في اتّباع الآثار والسنن وإن قلّ، أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتّباع الأهواء»[15].
5. عدم الغضب: عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، من كتابٍ له إلى الحارث الهمدانيّ: «واكْظِمِ الْغَيْظَ، وتَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدَرَةِ، واحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، واصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ، تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ».[16]
6. عدم حبّ الدنيا: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من عبد الدنيا وآثرها على الآخرة، استوخم العاقبة». [17]
7. قضاء حوائج المؤمنين: عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم، والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يُقبَل منكم عمل، حنُّوا على إخوانكم وارحموهم، تلحقوا بنا»[18].
8. العقل: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من كان عاقلاً، خُتم له بالجنّة إن شاء الله»[19]؛ فمن كان عاقلاً، كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنّة، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً[20].
9. مراعاة القلوب وتفقّدها: يقول العالم الجليل المازندرانيّ) رحمه الله): «فلا بدّ للعبد من مراعاة قلبه؛ فإن رآه مُقبلاً إليه عزّ وجلّ، شكر وبذل جهده ويطلب منه الزيادة لئلّا يستدبر: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾، وإن رآه مُدبراً زائغاً عن الحقّ، تاب واستدرك ما فرّط، فإن لم يفعل ربّما سلّط الله عليه العدوّ، ورفع عنه التوفيق، وهو يموت مدبراً مسلوب الإيمان، كما قال الله تعالى :﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾، نعوذ بالله من الإزاغة»[21].
التوفيق من الله
في الختام، على المرء أن يعلم جيّداً بأنّ الإيمان والعمل الصالح إنّما يكونان بتوفيقٍ من الله، فلا يعجبنّ الإنسانُ بنفسه، بل عليه أن يشكر فضلَ الله وتوفيقَه، وأن يتنبّهَ من غفلته عند إمهال الله له وإنظاره إيّاه؛ فإنّ ذلك يؤمن سوءَ العاقبة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجلٍ رأى أثرَ الخوف عليه، فقال له: «ما بالك؟!»، قال: إنّي أخاف الله، فقال (عليه السلام): «يا عبدَ الله، خفْ ذنوبَك، وخفْ عدلَ الله عليك في مظالم عباده، وأطِعْه في ما كلّفك، ولا تعصِهِ في ما يصلحُك، ثمّ لا تخفِ الله بعد ذلك؛ فإنّه لا يظلمُ أحداً، ولا يعذّبُه فوق استحقاقه أبداً، إلّا أن تخافَ سوءَ العاقبة، بأن تُغيِّر أو تُبدِّل؛ فإن أردت أن يؤمنَك اللهُ سوءَ العاقبة، فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك»[22].
[1] سورة العنكبوت، الآيتان 2 و3.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج6، ص176.
[3] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج1، ص125.
[4] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص348.
[5] المصدر نفسه، ص345.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص279، الخطبة 189.
[7] راجع: حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج11، ص161.
[8] سورة إبراهيم، الآية 27.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص398.
[10] سورة الروم، الآية 10.
[11] سورة طه، الآية 132.
[12] سورة هود، الآية 49.
[13] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص144، الخطبة 98.
[14] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص418.
[15] المصدر نفسه، ج8، ص8.
[16] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص459، الكتاب 69.
[17] الشيخ الصدوق، الخصال، ص632.
[18] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج72، ص379.
[19] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص14.
[20] المصدر نفسه.
[21] المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، ج1، ص137.
[22] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج67، ص392.