بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
جاء في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[1].
تُبيّن هذه الآية الكريمة موقعنا في عالم الوجود من خالق هذا الوجود وبارئه؛ فالموجودات بأسرها محتاجة إليه، ومرتبطة به في جميع شؤونها، وهو سبحانه قائمٌ بذاته، غير محتاجٍ لسواه، واحد أحد؛ فنحن المحتاجون وهو الغنيّ الحميد.
وللفقر هنا أربعة أوجه:
الأوّل: الفقر في أصل الخلقة والتكوين؛ بمعنى أنّ الموجودات جميعها محتاجة إلى بارئها في أصل وجودها وخروجها من حيّز العدم، ومرتبطةٌ به في استمرار بقائها، فإن انقطع هذا الارتباط أصبحت عدماً، يقول تعالى: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾[2].
وهذا واحد من المنبّهات العظيمة للإنسان لتوثيق علاقته بالله تعالى، ولكنّ الإنسان، ولشدّة انشغاله بالدنيا، كثيراً ما يذهل عن هذا الفقر، ويشتغل بالمصادر الحسّيّة المباشرة للوسائل التي تلبّي حاجاته.
الثاني: الفقر بمعنى الحاجة إلى الموارد الماليّة والأسس الضروريّة للتمتّع بأدنى مستويات الحياة الكريمة، من المأكل والملبس والمسكن وما شابهها، وهو المراد في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾[3]، وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾[4].
وهذا المعنى هو الذي ينطبق على الفهم اللغويّ والمصطلح المتبادر عند إطلاقه، والذين يتّصفون بهذا النوع من الفقر، بشّرهم الله عزّ وجلّ بثواب الآخرة والمنزلة العظيمة لقاء الصبر والرضا بما قسمه لهم جلّ وعلا، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «طوبى للمساكين بالصبر، وهم الذين يرَون ملكوت السماوات والأرض»[5]، وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: «يا معشر المساكين، طيبوا نفساً، وأعطوا الله الرضا من قلوبكم، يُثِبكم الله عزّ وجلّ على فقركم»[6].
الثالث: فقر النفس، وهو الشره الذي يسيطر على الإنسان، فلا يعود يشعر بالكفاف، ولو استحوذ على مال الدنيا كلّها، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفقر الناس الطامع»[7]، وعن الإمام الحسن (عليه السلام)، عندما سُئل: ما الغنى، قال: «رضا النفس بما قُسِم لها، وإن قلّ»، قيل: فما الفقر؟ قال (عليه السلام): «شره النفس إلى كلّ شيء»[8].
وهذا الفقر يوجِب اختلال التوازن العقليّ، ويؤدّي إلى انعدام الصواب في النظرة إلى الحياة، وقد يُفضي بصاحبه إلى كفران نِعِم الله ونسيان ذكره، ويدعوه إلى سدّ الخلّة بما يتدنّس به عرضه ويثلم به دينه، وهو المراد بقول الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): كاد الفقر أن يكون كفراً»[9]، وفي وصيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «الفقر الموت الأكبر»، فقيل له: الفقر من الدينار والدرهم؟، فقال: «الفقر من الدين»[10].
الرابع: الفقر إلى الله تعالى؛ بمعنى الشعور بالحاجة إلى واجب الوجود وصاحب الخزائن التي لا تنفد، والذي يعني امتلاء النفس ثقة بالله تعالى، والتعلّق التامّ به دون غيره، وإلى ذلك تشير الآية القرآنيّة الكريمة: ﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[11].
فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الله تعالى دائماً، وأن يسأل الغنيّ المطلق، فهو الذي يملك حوائج السائلين من العباد، وهو أرحم الراحمين وخير المعطين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تسألوا إلّا الله سبحانه؛ فإنّه إن أعطاكم أكرمكم، وإن منعكم خار لكم»[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلّا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلّا عند الله، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قلبه، لم يسأل الله شيئاً إلّا أعطاه»[13].
الفقير حقّاً
إنّ الفقير الفعليّ في هذه الدنيا، هو الإنسان الذي لم يقدّم في حياته شيئاً يُثاب به عند الله تعالى، هو الذي ضلّ عن سبيله، فتعدّى وغصب، وكان في رقبته مظالم لعباده، لم يتحلَّلْها منهم قبل وفاته.
سأل النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «أيّها الناس... ما الصعلوك فيكم؟»، قالوا: الرجل الذي لا مال له، فقال (صلّى الله عليه وآله): «بل الصعلوك حقّ الصعلوك، من لم يقدِّم من ماله شيئاً يحتسبه عند الله، وإن كان كثيراً من بعده»[14].
وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: «أتدرون ما المُفلِس؟»، فقيل: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع له، فقال: «المُفلِس من أمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمّ طُرح في النار»[15].
[1] سورة فاطر، الآية 15.
[2] سورة مريم، الآية 67.
[3] سورة البقرة، الآية 273.
[4] سورة التوبة، الآية 65.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص263.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج69، ص17.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص117.
[8] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص225.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص307.
[10] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص8.
[11] سورة القصص، الآية 24.
[12] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص530.
[13]الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص148.
[14] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص46.
[15] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج72، ص6.