بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
جاء في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَثِمَ، وَمَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَنْ خَاصَمَ»[1].
إنّ المخاصمة والخصومة هي من الظواهر السلبيّة التي تنتشر بين الناس، وتُثير بينهم العداوة والمعاداة، وتقطع العلاقات والأواصر، فهي نوعٌ من النزاع والتشاجر والنقاش اللفظيّ، والأخذ والردّ في الكلام، بما يحتوي من تشدّد ومضايقة. كما تكون الخصومة غالباً في الأمور والمعاملات الدنيويّة، وقد تكون في الأمور الدينيّة، فقد ورد الإمام الكاظم (عليه السلام): «مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَكُفُّوا مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ، وَيَدَعُوا الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ، وَيَجْتَهِدُوا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[2].
وللشريعة الإسلاميّة موقفٌ سلبيٌّ واضح من المخاصمة بين الناس، وقد نهَت عن ذلك في كثيرٍ من المضامين الروائيّة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخصم»[3]؛ أي الرجل شديد الخصومة.
وعن غياث بن إبراهيم قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إِذَا مَرَّ بِجَمَاعَةٍ يَخْتَصِمُونَ، لَا يَجُوزُهُمْ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثاً: «اتَّقُوا اللَّهَ» يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ[4]. وفي هذه الرواية دلالة واضحة وصريحة على أنّ الخصومات والنقاشات والمحاججات هي خلاف التقوى؛ ولذا كان الأمر من الإمام (عليه السلام) بالتقوى ثلاثاً قبل تجاوز المتخاصمين.
المخاصمة السلبيّة
لكن في الواقع، إنّ هذا النهي هو نهيٌ عن نوعٍ خاصّ من المخاصمة، ألا وهو المخاصمة السلبيّة، المخاصمة الّتي يكون غرضُها التفاخرَ واستعراضَ القوّة وإفحامَ الآخر وفرضَ الرأي عليه، وذلك من خلال الصوت المرتفع وإثارة الضجّة والانفعالات الكلاميّة، ممّا قد يؤول إلى تشويش معتقدات الطرف الآخر وأفكاره، بل حتّى المستمعين أيضاً؛ لذا حذّرَت الرواية الناهية من هذا النوع من النقاش والجدال، وبيّنت ما يمكن أن يترتّب عليه من آثار سلبيّة وتبعات سيئّة وعواقب وخيمة، فأمثال هذا النوع من المخاصمة، سواء أكان في أمور الدين أو الدنيا، غالباً ما ينحدر بالكلام تدريجيّاً، فيصل إلى الاستهانة والاستخفاف وقلّة الاحترام، بل ربّما يسوء النقاش ليصل إلى درجة تبادل الكلام المبتذل والقبيح، وترامي الاتّهامات الباطلة، بل حتّى الشتم والسباب والكلام البذيء، كما نشهد ذلك غالباً.
آثار الخصومة السلبيّة ومفاسدها
مُضافاً إلى ما ذُكر من آثار الخصومة السلبيّة، من انحدار مستوى الخطاب إلى درجة الإسفاف والابتذال والإهانة والسباب والشتم وغير ذلك، ثمّة آثارٌ أخرى، ذُكرَت في روايات أهل العصمة (عليهم السلام)، منها:
1. تمحق الدين، وتُحبط العمل، وتُورث الشكّ، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ، وَتُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَتُورِثُ الشَّكَّ»[5].
2. تُرديِ صاحبَها، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالْخُصُومَاتِ! فَإِنَّهَا تُورِثُ الشَّكَّ، وَتُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَتُرْدِي صَاحِبَهَا، وَعَسَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشَّيْءِ لَا يُغْفَرُ لَهُ»[6].
3. تُكسِب الضغائن وتجرّ إلى الكذب، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِيَّاكُمْ وَالْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ! فَإِنَّهَا تَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتُورِثُ النِّفَاقَ، وَتَكْسِبُ الضَّغَائِنَ، وَتَسْتَجِيزُ [تَسْتَجِيرُ] الْكَذِبَ»[7].
4. تكشف عن عدم اليقين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لَا يُخَاصِمُ إِلَّا مَنْ قَدْ ضَاقَ بِمَا فِي صَدْرِهِ»[8]؛ لذا فإنّ مَن يخاصم ويعتمد الحدّة والعنف القوليّ وربما اليدويّ في النقاش، هو إنسان قد يكون لديه مشكلة في يقينه بما يعتقد، أو لا أقلّ من أن يكون غير ورع؛ لذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لَا يُخَاصِمُ إِلَّا شَاكٌّ فِي دِينِهِ، أَوْ مَنْ لَا وَرَعَ لَهُ»[9].
5. تُفسِد العلاقة بالإخوان وبالله تعالى، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِيَّاكُمْ وَالْمِرَاءَ وَالْخُصُومَةَ! فَإِنَّهُمَا يُمْرِضَانِ الْقُلُوبَ عَلَى الْإِخْوَانِ، وَيَنْبُتُ عَلَيْهِمَا النِّفَاقُ»[10].
فالمخاصمة بهذا المعنى تخرّب المشاعر بين المؤمنين، وتفسد الودَّ ومشاعر الأخوّة، وتُكوِّن أرضيّةً خصبة للعداوات والمشاحنات والمشاجرات، ومن جهة أخرى تصنع أرضاً خصبة لنموّ بذور النفاق في القلوب.
إنّ افتقاد النقاش والحوار للأصول الصحيحة والسليمة، غالباً ما يؤدّي إلى تعزيز روح العناد والتعصّب لدى الأشخاص، ويثير الدخان الأسود الّذي يُعمي عن الحقائق، بل قد يلجأ كلّ طرفٍ بهدف التغلّب على خصمه والانتصار لنفسه إلى استخدام الأساليب التي تنطوي على الكذب والتهمة والخداع والإسقاط، وهذا النوع من العمل لا تكون عاقبته إلّا السوء والحقد، وتنمية جذور النفاق في الصدور، وإنّ من أهمّ المفاسد للجدال والخصومة السلبيّة، تمسّك كلّ طرف بانحرافه وأخطائه، وإصراره على اشتباهاته، والمعاندة، مستنداً ومستفيداً من أيّ دليل يُثبت باطلَه، ويموّهه على الآخرين بِلَبوس حقٍّ. وفي طريق ذلك هو يتجاهل الكلام الحقّ الصادر من خصمه، بل يحقّره ويزدريه، وربّما ينجرّ إلى آفة التكبّر والتعالي عليه وعلى حقّه.
المخاصمة الإيجابيّة
لكن هذا لا يعني أن يترك الإنسان النقاش والحوار مع الآخر مطلقاً؛ إذ إنّ الحوار من أهمّ وسائل التبليغ والتبيين وبيان الحقوق وإظهار الحقائق للناس. من هنا، نجد بعض الروايات قد أكّدت ضرورة مناظرة الناس ومحاججتهم، لكن بكيفيّة إيجابيّة وبالتي هي أحسن، ليتحصّل منها أغراض راقية وأهداف سامية، ففي الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، ويُلقَّب بالطيّار، جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهْتَ مِنَّا مُنَاظَرَةَ النَّاسِ وَكَرِهْتَ الْخُصُومَةَ، فأجابه الإمام (عليه السلام): «أَمَّا كَلَامُ مِثْلِكَ لِلنَّاسِ فَلَا نَكْرَهُهُ، مَنْ إِذَا طَارَ أَحْسَنَ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ وَقَعَ يُحْسِنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلَا نَكْرَهُ كَلَامَهُ»[11]، وفي هذه الرواية دلالة واضحة على نوعٍ آخر من المخاصمة، وهي المخاصمة الإيجابيّة، وثمّة روايات كثيرة تفيد أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يحثّون مَن يجدون فيه القدرة والكفاءة في المنطق والاستدلال على المناظرة والمحاججة والمخاصمة؛ وذلك دفعاً لخطر ضعف جبهة الحقّ، وتقوية عود خصومها، وتزلزل إيمان جمهورها بأحقّيّتها.
شروط المخاصمة الإيجابيّة
ولهذا النوع من المخاصمة أساليبها في النقاش والحوار، وقد أشار القرآن الكريم إليها، نذكر منها:
1. عدم الإصرار على الطرف المقابل ليقبل الكلام على أنّه هو الحقّ، بل مساعدته للتوصّل إلى النتيجة المطلوبة بنفسه، وهذا أسلوبٌ قرآنيّ واضح، يقول تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾[12].
2. الامتناع عن مُثيرات العناد، ومنها السبّ والعصبيّة، فقد نهانا الله عن سبّ آلهة الكفّار حتّى لا يصرّوا على عنادهم ويسبّوا الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[13].
3. مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش، لإشعار الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي توضيح الحقائق لا غير.
4. عدم الردّ بالمثل على المساوئ والأحقاد التي تبدر من المُخاصَم، بل السموّ بالأخلاق، والتعامل بالرأفة والرحمة والمحبّة، يقول تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ﴾[14].
في الختام، يعكس لنا القرآن الكريم النقاشات والمخاصمات التي كانت تدور بين الأنبياء (عليهم السلام) وأعدائهم، وما تنطوي عليه من دروسٍ تحوي في مضامينها أجمل الأساليب وأنجحها، وأفضل الوسائل النفسيّة التي تُسهّل النفوذ إلى نفوس الآخرين وقلوبهم، لنزرع فيها بذور الحقّ والخير، وكلّ خُلُق نبيل.
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص528، الحكمة 298.
[2] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص460.
[3] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج4، ص244.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص59.
[5] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص458.
[6] الشيخ البرقيّ، المحاسن، ج1، ص238.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص418.
[8] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص461.
[9] الأصول الستّة عشر، ص308.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص300.
[11] الشيخ الكشّيّ، رجال الكشيّ (اختيار معرفة الرجال)، ص348.
[12] سورة الواقعة، الآيات 57 - 58 - 59.
[13] سورة الأنعام، الآية 108.
[14] سورة فُصّلت، الآية 34.