بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيّته لجابر: «إنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِيٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِيَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاهَا، فَمَرَّةً يُقِيمُ أَوَدَهَا[1] وَيُخَالِفُ هَوَاهَا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَيَتَّبِعُ هَوَاهَا، فَيَنْعَشُهُ اللَّهُ فَيَنْتَعِشُ، وَيُقِيلُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ، فَيَتَذَكَّرُ وَيَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ، فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾»[2].
يشبّه الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيّته هذه المؤمنَ في هذه الدنيا بالمصارع الذي يتصارع مع نفسه، محاولاً التغلّبَ عليها، فتارةً تعلو همّته وتقوى إرادته، فيوفَّق بعون الله تعالى لذلك، وتارةً أخرى تصرعه نفسه، ويُهزَم أمام أهوائها. لكن لا ينبغي للمؤمن الاعتقادُ بأنّه لن يستطيع التغلّب على نفسه، وأنّه غارقٌ لا محالة، بل هذا هو حال الصراع، قد يُغلَب المرء ويضعف، ولكن عليه النهوض ومواصلة النزال بهمّة أصلب، وعزيمة أشدّ، وتوكّلٍ على الله تعالى، ولا شكّ في أنّه سينتصر عليها، فالدنيا حلبة مصارعة، والنفس عدوّ دائم، لا تنبغي الغفلةُ عنه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أعدى عدوّك، نفسُك التي بين جنبَيك»[3]، وبما أنّها أعدى الأعداء، وهي ملازمة للإنسان، فلا شكّ في أنّها تحتاج إلى رقابة دائمة وجهاد مستمرّ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن عرف نفسَه، جاهدها»[4].
الجهاد الأكبر
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[5]، ومن معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿جَاهَدُوا فِينَا﴾؛ أي جاهدوا في الله أنفسَهم، وجاهدوا الكفّارَ والمنافقين، وجاهدوا الشيطان... فالآية لم تحدّد نوع الجهاد، فهي تشمل جميع أنواعه، بما في ذلك جهاد النفس.
والجهاد في الإسلام هو بذل الجهد في سبيل أمرٍ من الأمور، وهو بهذا المعنى يشمل جهاد أعداء الإسلام، ويكون بالنفس والمال، وبكلِّ ما يملك المسلم من طاقة. ويشمل جهاد النفس والهوى، وهو الأكبر، المفروض عَيْناً على كلِّ مسلم، وقد عُدَّ جهاداً أكبر؛ لأنّه جهادٌ مستمرٌّ دائمٌ ما استمرّت الحياة. عن أمير المؤمنين (عليهم السلام): «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث سريّة، فلمّا رجعوا، قال: مرحباً بقومٍ قضَوا الجهادَ الأصغر، وبقي عليهم الجهادُ الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»[6]، بل هو أفضل الجهاد، كما يذكر (صلّى الله عليه وآله) في الرواية نفسها، إذ يُكمِل قائلاً: «أفضلُ الجهاد مَن جاهد نفسَه التي بين جنبَيه»، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «جاهد نفسَك على طاعة الله مجاهدةَ العدوِّ عدوَّه، وغالبها مغالبةَ الضدِّ ضدَّه؛ فإنّ أقوى الناس مَن قويَ على نفسِه»[7].
جهادٌ في محبّة الله
وهنا يشير الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيّته إلى نقاط تربويّة قيّمة في عمليّة جهاد النفس والصراع معها، فيقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِيٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِيَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاهَا»، فالمؤمن معنيٌّ بجهاد هذه النفس ليتوصّل إلى الغلبة عليها: «فَمَرَّةً يُقِيمُ أَوَدَهَا وَيُخَالِفُ هَوَاهَا فِي مَحَبَّةِ الله»، أي إنّه يتمكّن أحياناً من تقويم اعوجاجها وانحرافها ويخالف هواها، ويقيّد الإمام (عليه السلام) هنا مخالفةَ هوى النفس بسبيلٍ شيّق للتغلّب على هذا الهوى، ألا وهو «فِي مَحَبَّةِ الله».
فإذا كان قلبُ الإنسان عامراً بمحبّة الله واقعاً، وكان يُدرك أنّ اللهَ أحبُّ من أيّ محبوب، فإنّه سيترك القبيح بسهولة ويسر، وعندما يخاطبنا الله جلّ وعلا -على سبيل المثال- بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾[8]، أو يقول: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[9]، فهو يستخدم نهجاً تربويّاً في حثّ المؤمنين على ترك التكبّر، وحثّهم على التحلّي بالصبر، فكأنّه يقول: إذا كنت تُحبّني فلا تتكبّر، وإذا كنت تُحبّني فكن من الصابرين. وهذه الطريقة يتّبعها الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيّته، بأنّك إن كنت تحبّ الله تعالى، فعليك أن تتغلّبَ على نفسك وتخالفَ هواها.
الله ناصرٌ ومعين
ثمّ يقول الإمام الباقر (عليه السلام): «وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَيَتَّبِعُ هَوَاهَا»، أي تغلبه نفسه، فيتّبع ما تهوى وتُحبّ. فالإنسان إذا ذاق طعمَ المعصية، تراه يلهث وراءها بولع وشغف في كلّ مرّة. أمّا المؤمن الذي يكون في حالة صراعٍ مع النفس، وهو يحاول التغلّب عليها، لكنّه يُخفِق أحياناً في هذا النزال فتصرعه، فالله في هذه الحالة يمدّ له يدَ العون، ولا يدعه يُسحَق تحت سطوة نفسه، تقديراً لما اتّصف به من الإيمان والتقوى، «فَيَنْعَشُهُ اللهُ فَيَنْتَعِشُ، وَيُقِيلُ اللهُ عَثْرَتَهُ فَيَتَذَكَّرُ، وَيَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ»، يساعده الله، فيتذكّر ويتنبّه بأنّه قد اقترف خطأ عظيماً. وفي إثر الخوف الناشئ من هذه الحالة، يزيد الله في بصيرته ومعرفته، فيستأنف جهادَه لنفسه بقوّة أشدّ وعزيمة أكبر.
وهنا، يُلفت الإمام (عليه السلام) إلى نقطةٍ تربويّةٍ أخرى، مفادها أنّ المرء في صراعه مع النفس، لا ينبغي له أن يمنع اليأس من التسلّل إلى قلبه فحسب، بل عليه أن يُؤمِّل نفسَه بالنصر والغلبة عليها لكون الله معه وناصرَه ومعينَه، إذ إنّ الإنابة واللجوء إلى الله هي ضرب من ضروب العبادة، وحالة تضرّعٍ وتوسّل تساعده على محو ذنوبه، وتُضفي عليه كمالاً مضاعفاً.
العلاقة بين الخوف والمعرفة
ثمّ يستشهد الإمام (عليه السلام) بآية قرآنيّة على كلامه: «وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾». فالمؤمن الذي تزلّ قدمُه في حينٍ من الأحيان لا يصبح من أتباع الشيطان، ولا يكون الشيطان قرينَه ورفيقَه، بل المستفاد من الآيات القرآنيّة أنّ العلاقةَ بين الشيطان والناس على أنواع؛ فبعضهم يستحوذ عليهم الشيطان بشكل كامل، وبعضهم يكون الشيطان قرينَه ورفيقَه الدائم، أمّا بعضهم الآخر، فإنّ الشياطين تطوف عليهم بنحوٍ متواصل، فتميل عليهم إذا رأت ضالّتَها فيهم، وهو قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾، وهذا الميل من قِبَل الشيطان على المرء يُمثّل تلك الزلّة التي تحصل لدى بعض الناس. وبمجرّد أن يرتكب أناسٌ كهؤلاء الخطيئةَ، فإنّهم ينتبهون إلى قبيح فعلهم، وإذا التفتوا، فإنّ بصيرتَهم تتفتّح: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾. يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[10]، إذ ثمّة تناسبٌ بين الخشية والعلم؛ فكلّما زاد علم المرء بالله، وبصفاته، وبحكمته، ازداد خوفه وخشيته منه، وإذا كانت الخشية حقيقيّة، فلا بدّ من أن يكون الحذر أشدّ، وإذا كان خوف المرء خوفاً جدّيّاً فهو حتماً سيزيد في بصيرته: «فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ».
[1] أزال اعوجاجها، وأصلح أمرها.
[2] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص285.
[3] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج4، ص118.
[4] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص453.
[5] سورة العنكبوت، الآية 69.
[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص553.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص222.
[8] سورة لقمان، الآية 18.
[9] سورة آل عمران، الآية 146.
[10] سورة فاطر، الآية 28.