بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ»[1].
خطب رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) في الجمعة الأخيرة من شهر شعبان، مستقبلاً شهرَ رمضان المبارك، مبيّناً مكانتَه العظيمة، وما يحمله من عطاءات وخيرات وبركات، مُبشِّراً بعظيم الأجر والثواب، عادّاً ما خصّه اللهُ تعالى به من المزايا والصفات دون غيره من الشهور، حاثّاً العبادَ على اغتنام هذه الفرصة العظيمة، وتلبية الدعوة، والمشاركة في الضيافة الإلهيّة، والسعي لأكبر قدرٍ من الكسب والانتفاع.
مضافاً إلى بيان الفضائل والخصوصيّات، وما أعدّه اللهُ للصائمين في هذا الشهر العظيم من البركة والرحمة والمغفرة، حرص رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) على بيان جانبٍ آخر، ينبغي اغتنامُه والاستفادةُ من هذا الشهر الكريم في معالجته وتعزيزه، ألا وهو الجانب الاجتماعيّ.
إنّ شهر رمضان المبارك، ليس فرصةً للأبعاد العباديّة الخاصّة فحسب، بل إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أظهر في سياق كلامه على عظيم الضيافة الإلهيّة وتجلّياتها أنّ شهرَ رمضان هو محطّةٌ خاصّةٌ لتعزيز الأبعاد الاجتماعيّة للإنسان أيضاً، وهو فرصةٌ لمعالجة الانحرافات التي يقع فيها خلال الشهور الباقية، بل إنّ من أهمّ ما ينبغي للعبادات أن تؤثّر فيه هو بناءُ المجتمع السليم وتعاضدُ أفرادِه وتكاتفُهم.
لقد رسم لنا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) في خطبته الكريمة مساراً واضحَ المعالم في العلاقات الاجتماعيّة مع الآخرين، يقوم على مبدأ التعاطف والتراحم، فيغدو المجتمعُ بذلك بنياناً مرصوصاً يشدّ بعضه بعضاً، نذكر منها:
1. الصدقة
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ».
لقد اهتمّ الإسلام بالصدقة، بما لها من أبعادٍ اجتماعيّة إنسانيّة، ودورٍ كبير في توطيد العلاقات، وقد دعت الشريعة إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين، واستنكرت على المجتمع تضوّرَ بعضِ أهلِه جوعاً وحرماناً، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): ما آمن بي مَن بات شبعانَ، وجارُه جائع، قال: وما من أهل قرية، يبيت فيهم جائعٌ، ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة»[2]. فالصدقة عطيّةٌ يُخرجُها المُتصدِّق من ماله على نحو التبرّع، قاصداً بها التقرّبَ إلى الله تعالى، فتكون ذخراً له عند الله ووديعتَه التي لا تحتاج إلى إشهاد، إذ إنّها تقع بيد الله تعالى، عن الإمام زينِ العابدينَ (عليه السلام): «وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَقَةِ، فَأَنْ تَعْلَمَ أنَّها ذُخرُكَ عِنْدَ رَبكَ، وَوَديعَتُكَ الَّتِي لا تَحْتَاجُ إلى الإشْهَادِ»[3].
ولا يخفى ما للصدقة من خصوصيّةٍ في شهر الله تعالى، وأجرٍ عظيمٍ في شهر الكرم والضيافة الإلهيّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن تصدَّقَ في شهر رمضان بصدقة، صرف اللهُ عنه سبعين نوعاً من البلاء»[4]، كما ويعظم أجرُها أيضاً إذا كانت لذي رحِم، فقد سُئل الإمامُ الصادق (عليه السلام): الصدقة على مَن يسأل على الأبواب؟ أو يمسك ذلك عنهم ويعطيه ذوي قرابتِه؟ فقال: «لا، بل يبعث بها إلى مَن بينه وبينه قرابة، فهذا أعظم للأجر»[5].
2. توقير الكبير ورحمة الصغير
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ».
إنّ من أعظم الأخطاء الاجتماعيّة أن يقلِّلَ المجتمعُ من احترام الكبير، ويبعدَه عن كيان الأسرة، ويجعَله في دور خاصّة، كما يحصل في بعض المجتمعات الغربيّة اليوم، وهذا خلاف القانون الإسلاميّ الذي دعا إلى احترام الكبير وتوقيره والاستفادة من تجاربه وخبراته، بل عَدَّ الإسلامُ إجلالَه من إجلال الله تعالى، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مِن إجلالِ الله عزّ وجلّ إجلالُ المؤمن ذي الشَّيْبة، ومَن أكرم مؤمناً فَبِكرامة اللهِ بدأ، ومَن استخفّ بمؤمنٍ ذي شَيْبة أرسل اللهُ إليه مَن يستخفّ به قبل موته»[6]، وعنه (عليه السلام) أيضاً: «جاء رجلان إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، شيخٌ وشابٌّ، فتكلّم الشابُّ قبل الشيخ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): الكبير الكبير»[7].
وكما دعا الإسلامُ إلى توقير الكبير، دعا إلى رحمة الصغير والرأفة به، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ، ولْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ، ولَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّة»[8]؛ فالتأسّي بالكبير لكونه أكثرَ تجربةً وعلماً، يُستفاد من خبرتِه، وهو أولى بأن يكون قدوةً لغيره، أمّا الصغير فيُرأَف به، لأنّه ضعيفٌ وأهلٌ لأن يُرحَم، ويُعذَر لقلّة خبرته ومعرفته بالأمور، والغاية من هذا انتظام المجتمع وصلاحه وحصول المودّة والإلفة.
3. صلة الرحم
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».
إنّ صلةَ الرحم سببٌ لصلة الله تعالى، وهي واجبة على المسلم، بل إنّ قطيعتَه من الكبائر التي توعّد اللهُ النارَ عليها، والأحاديث في ذلك مستفيضة، وقد لفت رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) في خطبته إلى نقطةٍ مهمّة، هي أنّ هذا الشهر الشريف، وعلى الرغم من كونه فرصةً عظيمةً لزيادة العطاء ومضاعفة الثواب، هو أيضاً بابٌ للعقاب في بعض الحالات، ومنها ما يتعلّق بالأرحام، فكما أنّ صلةَ الرحم بابُ عبورٍ إلى الرحمة الإلهيّة الواسعة، فإنّ قطيعةَ الرحم بابُ حرمانٍ من الرحمة الإلهيّة يوم القيامة، يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ»[9].
وقد دعا الإسلامُ إلى صلة الأرحام في الأحوال كلّها، حتّى عند القطيعة، إذ أمر بأن تُقابَل القطيعةُ بالصلة حفاظاً على الأواصر والعلاقات، وترسيخاً لمبادئ الوئام والمودّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أنّ رجلاً أتى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا رسولَ الله، أهلُ بيتي أبَوْا إلّا توثّباً عليَّ وقطيعةً لي وشتيمةً، فأرفضُهم؟ قال: إذاً يرفضُكم اللهُ جميعاً، قال: كيف أصنع؟ قال: تصِل مَن قطعَك، وتُعطي مَن حرمَك، وتعفو عمَّن ظلمَك، فإنّك إذا فعلتَ ذلك، كان لك من اللهِ عليهم ظهيرٌ»[10].
وللصلة طرقها ووسائلها، المعنويّة والمادّيّة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «صلوا أرحامكم ولو بالسلام»[11]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «صِلْ رَحِمَكَ ولو بشربةٍ من ماء، وأفضل ما توصَلُ به الرحِم كفّ الأذى»[12].
في الختام، إنّ شهر رمضان المبارك هو فرصةٌ ومحطَّةٌ لتفعيل الجانب الاجتماعيّ وتعزيزه، ولا ينبغي أن يكون كغيره من الشهور في ما يرتبط بهذا الجانب وغيره؛ فهو شهر المغفرة، شهر الرحمة، شهر التسامح والعفو والتجاوز، شهر الانتقال من حالٍ إلى حالٍ أفضل وأحسن، على الصعيدَين: الفرديّ والاجتماعيّ.
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص668.
[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول، ص259.
[4] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص142.
[5] المصدر نفسه.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص658.
[7] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج8، ص393.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص240، الخطبة 166.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص150.
[11] الشيخ الصدوق، الخصال، ص613.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص151.