بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
جاء في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في وداعِ شهرِ رمضانَ المبارك: «السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ! السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لَا تُنَافِسُه الأَيَّامُ»[1].
شرّف اللهُ شهرَ رمضان المبارك، فنسبه إليه دون غيره من الشهور، واستضاف به عبادَه، وأكرمهم من خلاله، جاعلاً إيّاه شهرَ التوبة والمغفرة والعفو والرحمة، شهرَ غَلِّ الشياطين وتصفيدِهم، وشهرَ العتقِ من النار والفوزِ بالجنّة. لذلك، كان هذا الشهر عيداً قصيراً للأولياء والصالحين، وغمّاً طويلاً للمجرمين والطالحين، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّه الأَكْبَرَ، ويَا عِيدَ أَوْلِيَائِه»[2].
المغفرة أعظم الغنائم
يُظهِر الإمامُ زينُ العابدين (عليه السلام) في دعائه، بعد أن يبيّن فضائلَ هذا الشهر، عباراتِ الحسرة على ما فرّط الإنسان في هذا الشهر الشريف وخسره، فيبيّن من خلال ذلك قيمةَ هذه الفرصة العظيمة التي منّ اللهُ بها على عبادِه.
وإنّ أعظمَ ما يمكن الحصول عليه في هذا الشهر الشريف هو المغفرة؛ إذ إنّها الهدفُ الأسمى الذي يسعى المُسلم في شهر رمضان إلى نَيْله، وقد عَدَّ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) مَن لا يُدرك هذا الهدف مِن الأشقياء، فقال: «إِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ»[3].
وقد وَرَد هذا الهدف في دعاء وداعِ شهر رمضان: «فأسألُكَ بوجهِكَ الكريمِ وكلماتِكَ التامّةِ، إنْ كانَ بَقِيَ عَلَيَّ ذنبٌ لم تغفرْهُ لي، أو تريدُ أنْ تعذِّبَني عليه، أو تُقايِسَني به، أن يطلعَ فجرُ هذه الليلةِ، أو يتصرَّمَ هذا الشهرُ، إلّا وقد غفرتَهُ لي»[4].
فإذا حُرِمَ الإنسانُ المغفرةَ في شهر رمضان المبارك، برغم العطاءات العظيمة والرحمة الواسعة ومُضاعَفة الأجر وقَبول الأعمال، فإنّه لن ينال المغفرةَ في غيرها من الأيّام، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن لم يُغفر له في شهرِ رمضان، لم يُغفر له إلى قابِل، إلّا أن يَشهدَ عرفة»[5].
العشر الأواخر من شهر رمضان
من هنا، كان على الإنسان أن يغتنمَ ما بقي من هذا الشهر الشريف، علّه يُحصِّلُ الهدفَ الأسمى، فلا يُكتَب من الأشقياء. وللعشرة الأواخر من شهر رمضان ميزةٌ خاصّة على باقي أيّامه الشريفة؛ إذ فيها تكون خلاصةُ الطاعات والعبادات، فلا ينبغي للصائم أن تضعفَ همّتُه فيها، بل عليه أن يضاعفَ جهودَه في العبادة والطاعة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لمّا كان أوّل ليلة من شهر رمضان، قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، قد كفاكم اللهُ عدوَّكم من الجنّ والإنس، ووعدكم الإجابة، وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[6]، ألا وقد وكَّل الله سبحانه وتعالى بكلّ شيطان مريد سبعةً من الملائكة، فليس بمحلولٍ حتّى ينقضي شهر رمضان، ألا وأبواب السماء مفتّحة من أوّل ليلة منه إلى آخر ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول؛ حتّى إذا كان أوّل ليلة من العشر، قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال مثل ذلك، ثمّ قام، وشمّر، وشدّ المئزر، وبرز من بيته، واعتكف، وأحيا الليل كلَّه، وكان يغتسل كلَّ ليلة منه بين العشاءين»[7].
فالعمل في نهاية هذا الشهر أرقى منه في بداياته؛ لذا جاء تأكيد إحياء العشر الأواخر من شهر رمضان، ونقرأ في الدعاء: «وأن تجعلَ خيرَ عمري آخرَه، وخيرَ أعمالي خواتيمَها، وأسألك مغفرتَك ورضوانَك يا أرحم الراحمين»[8].
الليلة الأخيرة
ويكفي في شرف العشر الأواخر من الشهر الفضيل وعظمتها أنّ فيها ليلةً ليست كباقي الليالي، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة من الشهر، ليلة عيد الفطر، التي هي ليلة الفرصة الأخيرة للحصول على الهدف الأسمى، والتي ورد فيها غفران الذنوب وقَبول التوبة، بشرط أن يتوجّه الإنسان بصدقٍ وإخلاص، تائباً من ذنوبه ومعاصيه، معترفاً بتقصيره بين يدي الله تعالى، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ لله تعالى ملائكةً موكّلين بالصائمين، يستغفرون لهم في كلّ يوم من شهر رمضان إلى آخره، وينادون الصائمين كلّ ليلة عند إفطارهم: أبشروا -عبادَ الله- فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً، بوركتم وبورك فيكم، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان، نادوهم: أبشروا -عبادَ الله- فقد غفر الله لكم ذنوبَكم، وقَبِل توبتكم؛ فانظروا كيف تكونون في ما تستأنفون»[9].
وعن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أُمَّةُ نَبِيٍّ قَبْلِي... وَأَمَّا الْخَامِسَةُ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ، غُفِرَ لَهُمْ جَمِيعاً». فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْعُمَّالِ إِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا؟»[10].
فقد شبّهَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) الليلةَ الأخيرة بموعد انتهاء العامل من عمله؛ فالعامل عادةً يُعطَى أجرته أو نصيبه بعد فراغه من العمل، وفي ليلة العيد، يكون المؤمن الصائم قد انتهى من عمله العباديّ، وحان وقت الجائزة والمكافأة الربّانيّة. لذا، حريّ بنا أن نغتنم هذه الأيّام والليالي حتّى آخر لحظة فيها.
يوم القدس
وفي العشرة الأواخر، وبمحاذاة ليالي القدر وليلة الفطر، كان إعلان الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) الجمعةَ الأخيرة من شهر رمضان المبارك يوماً عالميّاً للقدس، ليكون منطلَقاً وعنواناً يجمع المسلمين على هذا الطريق، يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سِرُّه): «كان يوم القدس يوماً إسلاميّاً، وتعبئةً إسلاميّةً عامّة، وإنّي آمل أن يكون مقدّمةً لتأسيس حزب المستضعَفين في العالَم، ليشارك المستضعَفون فيه أيضاً، ويبحثوا عن حلول للمشاكل التي تعترض طريقَهم، لينهضوا وينتفضوا في وجه المستكبِرين والناهبين الدوليّين في الشرق والغرب، ولا يسمحوا لهم باضطهاد مستضعَفي العالَم بعد الآن، ويحقّقوا نداء الإسلام ووعد الله تعالى بحكومة المستضعَفين (وراثة الأرض)»[11].
ويأتي يوم القدس هذا العام، وغزّة تنزف دماً، وتقع تحت أجلى مصاديق الظلم والتعدّي في هذا العصر، من قبل الكيان الإسرائيليّ الغاصب، وفي ظلّ تخاذل معظم الحكومات العربيّة والإسلاميّة، بل وتواطئها. من هنا، ينبغي على كلّ مسلمٍ أن يلبّيَ نداء الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، وأن ينتصر لفلسطين والقدس وغزّة، يقول الإمام (قُدِّس سرّه) في وجوب المواجهة: «إنّ قبلةَ المسلمين الأولى تقبع اليوم تحت وطأة إسرائيل، الغدّة السرطانيّة في الشرق الأوسط... إنّهم يسحقون إخوتَنا الفلسطينيّين واللبنانيّين الأعزّاء، ويهدرون دماءهم. إنّ إسرائيل اليوم تبثّ الفرقة بين المسلمين بمختلف أساليبها الشيطانيّة. وعلى كلّ مسلم أن يُعدّ نفسه لمواجهة إسرائيل»[12].
حقّ المسلم على المسلم
وإنّ من أبرز حقوق المسلم على المسلم أن يعينه في نفسه وماله ولسانه ويده ورجله، فعَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ أنّه سألَ الإمامَ الصادقَ (عليه السلام): مَا حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؟ قَالَ: «لَه سَبْعُ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، مَا مِنْهُنَّ حَقٌّ إِلَّا وهُوَ عَلَيْه وَاجِبٌ، إِنْ ضَيَّعَ مِنْهَا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ اللَّه وطَاعَتِه، ولَمْ يَكُنْ لِلَّه فِيه مِنْ نَصِيبٍ»، قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ! ومَا هِيَ؟ قَالَ: «يَا مُعَلَّى، إِنِّي عَلَيْكَ شَفِيقٌ، أَخَافُ أَنْ تُضَيِّعَ ولَا تَحْفَظَ، وتَعْلَمَ ولَا تَعْمَلَ»، قَالَ: قُلْتُ لَه: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه، قَالَ: «أَيْسَرُ حَقٍّ مِنْهَا أَنْ تُحِبَّ لَه مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وتَكْرَه لَه مَا تَكْرَه لِنَفْسِكَ، والْحَقُّ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَنِبَ سَخَطَه، وتَتَّبِعَ مَرْضَاتَه، وتُطِيعَ أَمْرَه، والْحَقُّ الثَّالِثُ: أَنْ تُعِينَه بِنَفْسِكَ ومَالِكَ ولِسَانِكَ ويَدِكَ ورِجْلِكَ، والْحَقُّ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنَه ودَلِيلَه ومِرْآتَه، والْحَقُّ الْخَامِسُ: أَنْ لَا تَشْبَعَ ويَجُوعُ، ولَا تَرْوَى ويَظْمَأُ، ولَا تَلْبَسَ ويَعْرَى، والْحَقُّ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ لَكَ خَادِمٌ ولَيْسَ لأَخِيكَ خَادِمٌ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَبْعَثَ خَادِمَكَ، فَيَغْسِلَ ثِيَابَه، ويَصْنَعَ طَعَامَه، ويُمَهِّدَ فِرَاشَه، والْحَقُّ السَّابِعُ: أَنْ تُبِرَّ قَسَمَه، وتُجِيبَ دَعْوَتَه، وتَعُودَ مَرِيضَه، وتَشْهَدَ جَنَازَتَه، وإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ لَه حَاجَةً تُبَادِرُه إِلَى قَضَائِهَا، ولَا تُلْجِئُه أَنْ يَسْأَلَكَهَا، ولَكِنْ تُبَادِرُه مُبَادَرَةً، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ وَصَلْتَ وَلَايَتَكَ بِوَلَايَتِه ووَلَايَتَه بِوَلَايَتِكَ»[13].
[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، ص198، الدعاء 44.
[2] المصدر نفسه.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[4] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجِّد وسلاح المتعبِّد، ج2، ص636.
[5] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص133.
[6] سورة غافر، الآية 60.
[7] السيّد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج1، ص71.
[8] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص330.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص108.
[10] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص131.
[11] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، صحيفة الإمام، ج9، ص221.
[12] المصدر نفسه، ج10، ص113.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص169.