بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، في هذه الأيّام، بذكرى شهادة الإمام الحادي عشر من أئمّة الهدى (عليهم السلام)، الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام).
جاء في كتابه العزيز: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[1].
وُلد الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) في المدينة المنوّرة، في الثامن من ربيع الآخر سنة 232 للهجرة، وقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) سنة 254 للهجرة، حتّى سنة 260 للهجرة، إذ كانت إمامته (عليه السلام) ستّ سنوات، وقد أوصى بالإمامة قبل شهادته إلى ابنه الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) من بعده.
وكانت شهادته (عليه السلام) في الثامن من ربيع الأوّل سنة 260 للهجرة، وعمره الشريف ثمانية وعشرون عاماً، وقد دُفن مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في سامرّاء.
المعاناة مع العبّاسيّين
جيء بالإمام العسكريّ مع أبيه (عليهما السلام) إلى سامرّاء مركز الخلافة العباسيّة آنذاك، وعمره سنتان، بعد أن فرض الخليفة العباسيّ المتوكّل على والده الإمام الهادي (عليه السلام) الإقامة فيها، ليقيِّد حركته، ويمنعه من التواصل مع شيعته. وقد عاش مع أبيه في سامرّاء عشرين سنة، واستلم الإمامة بعده، وله من العمر اثنان وعشرون عاماً.
وقد واصل الإمام العسكريّ (عليه السلام) مهامّ الإمامة بعد أبيه (عليه السلام)، معاصراً في مرحلة إمامته حكومة ثلاثةٍ من الخلفاء العبّاسيّين، هم المعتزّ والمهتدي والمعتمد؛ عانى الإمام (عليه السلام) فيها ما عاناه والده في سامرّاء من الحصار والتضييق والتشديد عليه، وقد سُجن مرّاتٍ عدّة في سجون بني العبّاس. وقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى مدى معاناته في توقيعه الّذي وجّهه إلى شيعته، عندما اجتمعوا بالعسكر، يترصّدون خروجه (عليه السلام) يوم ركوبه، قائلاً: «ألا لا يُسلِّمنّ عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يُومِئ، فإنّكم لا تأمنون على أنفسكم»[2].
وهذا الحصار، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على مدى خشية العبّاسيّين من هذا الإمام الّذي بلغ من العلم والعبادة وحسن الخلق والتواضع والكرم، ما جعله مهبط قلوب الناس جميعهم. وقد أقرّ بذلك العدوّ والصديق، فقد ورد عن وزير الخليفة العبّاسي ابن خاقان، أنّه قال لابنه أحمد، عندما سأله: يا أبه، مَن الرجل الّذي رأيتك بالغداة فعلتَ به ما فعلت، من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديتَه بنفسك وأبويك؟! فقال له: يا بُنيّ، ذاك إمام الرافضة الحسن بن عليّ، المعروف بابن الرضا، ثمّ سكت ساعة وأنا ساكت، ثمّ قال: يا بُنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيتَ أباه، رأيتَ رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
يقول ابن الوزير: ازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي، وما سمعت منه فيه، ورأيت مِن فعله به، فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلّا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلّا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظُم قدره عندي؛ إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلّا وهو يُحسِن القول فيه والثناء عليه[3].
مواجهة الانحراف
لكن، وعلى الرغم من كلّ هذا الحصار والتضييق والضغط الّذي كابده وعاناه مع العبّاسيّين، كان يستفيد من الظروف المؤاتية ليقوم بالتوجيه والتعليم والتربية وبثّ المعارف على نطاق المجتمع بشكلٍ عام، ويعمل على مواجهة الانحرافات الفكريّة والعقديّة والفهم الخاطئ للقرآن، وقد اعتمد في تأدية هذا الدور على الوكلاء والطلّاب الّذين ربّاهم وعلّمهم، فكان يرسلهم إلى شتّى البلدان، وكانوا صلة وصلٍ بينه وبين الناس، يحملون أسئلتهم، ويبلّغونهم إجاباته عنها وتوجيهاته.
ومن الانحرافات الّتي واجهها الإمام وردّ فيها على الشبهات، قيام إسحاق الكنديّ، والّذي كان فيلسوف العراق في زمانه، بتأليف كتابٍ ادّعى فيه وجود تناقض في القرآن؛ إذ دخل بعض تلامذته على الإمام (عليه السلام)، فقال له: «أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكنديّ عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟»، فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره، فقال له أبو محمّد: «أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟»، قال: نعم، فعلّمه الإمام (عليه السلام) ما ينبغي أن يقوله له، وما يمكن أن يردّ به على الفيلسوف... فصار الرجل إلى الكنديّ، وتلطّف، إلى أن القى عليه هذه المسألة، فقال له: أعِد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه... فقال: أقسمتُ عليك إلّا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلّا، ما مثلك مَن اهتدى إلى هذا، ولا مَن بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني مِن أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمّد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثلُ هذا إلّا من ذلك البيت، ثمّ إنّه دعا بالنار، وأحرق جميع ما كان ألّفه[4].
ومن الأمور المعرفيّة الّتي ألقاها الإمام (عليه السلام) في مواجهة بعض أهل الشغب والجدل الّذين كانوا يلقون حبال الشكّ في طريق المسلمين، فيقولون: إنّكم تقولون في صلواتكم: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[5]، أوَلستم فيه؟! فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه، فتدعون ليهديكم إليه؟[6] ففسر الإمام (عليه السلام) الآية، قائلاً: «أدِم لنا توفيقك الّذي به أطعناك في ماضي أيّامنا، حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا»[7].
العلاقة بين المؤمنين
وقد حرص الإمام (عليه السلام) إلى جانب ذلك كلِّه، على تعزيز علاقة الأخوّة بين المؤمنين داخل المجتمع الإسلاميّ، فدعا إلى أن يكون المؤمن خيراً للمؤمن، وقائماً بحقوقه.
فقد ورد في الحديث عنه (عليه السلام): «خصلتانِ ليسَ فوقهما شيءٌ؛ الإيمانُ باللهِ، ونفعُ الإخوانِ»[8]، وفي حديث آخر يقول (عليه السلام): «أعرفُ الناسِ بحقوقِ إخوانِهِ وأشدُّهم قضاءً لها، أعظمُهم عندَ الله شأناً، ومَن تواضع في الدنيا لإخوانه، فهو عند الله من الصدّيقين، ومن شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حقّاً»[9].
ثمّ إنّه (عليه السلام) حذَّر من كلّ ما يسيء إلى هذه العلاقة، فدعا إلى عدم النقد والوعظ علانيةً، أمام الأشهاد، بل حثّ إلى الوعظ والإرشاد سرّاً، قائلاً: «من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه»[10]، وإذا تكلّم الإنسان على أخيه بين الناس، فليذكر إحسانه، ولينسَ ذنوبه وسيئاته، قال (عليه السلام): «خير إخوانك مَن نسي ذنبك وذكر إحسانك إليه»[11].
[1] سورة الأنبياء، الآية 73.
[2] الروانديّ، الخرائج والجرائح، ج1، ص440.
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص323.
[4] راجع: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص526.
[5] سورة الفاتحة، الآية 6.
[6] الشيخ السبحانيّ، الأئمّة الاثني عشر، ص186.
[7] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (عليه السلام)، ص44.
[8] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص486.
[9] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص267.
[10] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص489.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص379.