بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، ولا سيّما المقاومة الإسلاميّة ومجاهديها وبيئتها، نتقدّم بأسمى آيات التعزية والتبريك بشهادة رئيس المجلس التنفيذيّ لحزب الله، سماحة القائد والمجاهد الكبير السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)، الذي كان الناصر والرفيق الدائم لسماحة الأمين العامّ الشهيد السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، ليكون نجماً ساطعاً بين الشهداء في سماء القدس وفلسطين، سائلين المولى أن ينصرنا ببركة دمائهم وجهودهم الكبيرة والطويلة في مسيرة الجهاد، على عدوّه وعدوّنا، نصراً عزيزاً مؤزّراً، بإذنه ومشيئته تعالى.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِه؛ إِنْ نَابَتْه نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْه الْمَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْه، وإِنْ أُسِرَ وقُهِرَ واسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ الأَمِينُ، لَمْ يَضْرُرْ حُرِّيَّتَه أَنِ اسْتُعْبِدَ وقُهِرَ وأُسِرَ، ولَمْ تَضْرُرْه ظُلْمَةُ الْجُبِّ ووَحْشَتُه، ومَا نَالَه أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْه، فَجَعَلَ الْجَبَّارَ الْعَاتِيَ لَه عَبْداً بَعْدَ إِذْ كَانَ لَه مَالِكاً، فَأَرْسَلَه ورَحِمَ بِه أُمَّةً، وكَذَلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً، فَاصْبِرُوا ووَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا»[1].
إنّ الصبر عند وقوع الشدائد والبلاءات، وتحمّل المصائب والمكاره من دون جزع، من الأمور التي حثّ عليها الإسلام، وأكّد ضرورتها ومكانتها، وبيّن جزيل ثوابها، وهو دليل على رجاحة العقل، وسعة الأفق، وسموّ الخلق، وهو درع واقٍ من شماتة الأعداء والحسّاد، وسبب رئيس في الثبات على العقيدة والمبدأ، وتحرّر الإنسان من عبوديّة النفس والأهواء.
مكانة الصبر وأجر الصابرين
ولقد أثنى الله تعالى على الصابرين ومدحهم في كتابه الكريم؛ فبشّرهم بحبّه لهم، إذ قال: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[2]، ووعدهم بتأييده: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[3]، وشملهم بعنايته ولطفه ورحمته: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[4].
وقد تواترت الروايات والأحاديث في بيان مكانة الصبر وعظيم أجر الصابرين، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»[5]، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «لمّا حضرت أبي (عليه السلام) الوفاة، ضمّني إلى صدره، ثمّ قال: يا بُنيّ، اِصبر على الحقّ، وإن كان مرّاً، يُوفَّ إليك أجرك بغير حساب»[6].
أنواع الصبر وأقسامه
وإنّ للصبر أنواعاً يبيّنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديثٍ يرويه أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله): الصَّبْرُ ثَلاَثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ المُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَة»[7].
1. الصبر على طاعة الله وعن معصيته
يذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديثه هذا ثلاثة أنواعٍ للصبر، يبدؤها بالصبر عند المصيبة، وهو ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر الصبر على إطلاقه، ثمّ يذكر نوعين آخرين للصبر، هما الصبر على طاعة الله وعن معصيته، فكيف يكون ذلك؟
إنّ النفس الإنسانيّة مجبولة على التفلّت من القيود، والميل عن ضوابط الحرّيّة وعدم الالتزام بحدودها، والانطلاق في مسارح الأهواء والشهوات. وحيث إنّ إلزامها بطاعة الله عزّ وجلّ ومنعها عن معصيته ممّا يحتاج إلى جهد ورقابة وحذر دائم، خصوصاً مع كثرة المغريات ووسوسات الشياطين، كانت الحاجة إلى الصبر، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فليس تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت»[8].
2. الصبر على المكاره والنوائب
أمّا الصبر عند المصائب والبلايا، فهو من أبرز مصاديق الصبر، الدالّة على سموّ النفس والوعي والقوّة والشجاعة والثبات على الدين والعقيدة.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْجُورٌ، وإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْزُورٌ»[9].
ومن الواضح أنّ ما يجرّد المرء من فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلّد، هو الجزع المفرِط، الذي يُوقِع المرء في أفعالٍ وأعمالٍ لا يرضا بها الإسلام، كشقّ الجيوب، وخدش الوجوه، والإسراف في الشكوى والتذمّر؛ أمّا الترويح عن النفس بالبكاء، أو الشكاية من متاعب المرض وعنائه، فإنّها من ضرورات العواطف الحيّة، والمشاعر النبيلة، كما قال (صلّى الله عليه وآله) عنده وفاة ابنه إبراهيم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ، وإنّا بك -يا إبراهيم- لَمحزونون»[10].
نتائج الصبر وآثاره[11]
يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) في الأربعون حديثاً: اعلم أنّ للصبر نتائج كثيرة، التي منها:
1. ترويض النفس وتربيتها
إذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على المفاجِئات المزعجة ونوائب الدهر، وعلى مشاقّ العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسيّة، امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتَحَمّل الصعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، تروّضت النفس شيئاً فشيئاً، واعتادت وتخلّت عن طغيانها، وتذلَّلت صعوبة تحمّل المشاقّ عليها، وحصلت للنفس ملكة راسخة نوريّة، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة.
2. تهوين المصائب
إنّ الصبر مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك، بل الصبر يهوّن المصائب، ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلاليّة مملكة الروح.
3. الثبات على المبدأ
فيا أيّها العزيز، إنّ الموضوع خطير، والطريق محفوف بالمخاطر، فابذل من كلّ وجودك الجهد، واجعل الصبر والثبات من طبيعتك أمام حوادث الأيّام، وانهض أمام النكبات والرزايا، ولقّن النفس بأنّ الجزع والفزع مضافاً إلى أنّهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليّات، ولا فائدة من الشكوى على القضاء الإلهيّ وعلى إرادة الحقّ عزّ وجلّ أمام المخلوق الضعيف.
رسول الله وأهل بيته نموذج الثبات والتضحية
ولقد كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته، والتضحية في سبيله بأعزّ النفوس والأرواح.
فكان (صلّى الله عليه وآله) كلّما اكفهرّت في وجهه أعاصير المحن، وتألّبت عليه قوى الكفر والطغيان، ازداد صموداً ومُضيّاً في نشر رسالته، وهو القائل: «والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتّى يُظهرَه الله أو أهلك»[12].
ورُوي أنّ أمير المؤمنين قال لحجر بن عديّ: «كيف بك إذا دُعِيت إلى البراءة منّي، فما عساك أن تقول؟»، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لو قُطِّعتُ بالسيف إرباً إرباً، وأُضرِم لي النار، وأُلقيت فيها، لآثرت ذلك على البراءة منك، فقال: «وُفّقتَ لكلِّ خير يا حجر، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّك»[13].
ورُوي أنّ رشيد الهَجَرِيّ، وكان من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، أُتي به إلى زياد بن أبيه (لعنه الله)، فقال له زياد: ما قال خليلك لك أنّا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يديّ ورجليّ وتصلبونني، فقال زياد: أما والله، لأكذِّبنَّ حديثَه، خلّوا سبيله؛ فلمّا أراد أن يخرج، قال: ردّوه، لا نجد لك شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك، إنّك لن تزال تبغي سوءاً إن بقيت، اِقطعوا يدَيه ورجلَيه، فقطعوا يدَيه ورجلَيه وهو يتكلّم، فقال: اصلبوه خنقاً في عنقه[14]...
وقال الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ذات يوم: أحبّ أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب، فأتقرّب الى الله بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه، فأُتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي، قال: اِبرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه، تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه؟ قال: إنّي قاتلك، فاختَر أيّ قتلة أحبّ إليك، قال: قد صيّرتُ ذلك إليك، قال: ولِم؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلة إلّا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ مَنيّتي تكون ذبحاً، ظلماً بغير حقّ. قال: فأمر به فذُبِح[15].
صبر الإمام الحسين وأصحابه (عليهم السلام) وثباتهم على المبدأ
وقد وقف الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، مُعلِناً عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهُرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نُؤثِر طاعة اللئام على مصارع الكرام»[16].
ويؤكّد الإمام الحسين (عليه السلام) ثباته على المبدأ، مؤثِراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة، إذ يقول: «والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»[17]، ويقول أيضاً: «إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين الباغين إلّا برما»[18].
وقد اقتفى أصحابه (عليهم السلام) نهجه في الصمود والثبات على المبدأ، ومفاداته بأرواحهم.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص89.
[2] سورة آل عمران، الآية 146.
[3] سورة الأنفال، الآية 46.
[4] سورة الزمر، الآية 10.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص89.
[6] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص410.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص91.
[8] المصدر نفسه، ج2، ص459.
[9] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص527، الحكمة 291.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص263.
[11] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الأربعون حديثاً، الحديث السادس عشر: الصبر، فصلٌ في نتائج الصبر.
[12] ابن أبي الحديد المعتزليّ، شرح نهج البلاغة، ج14، ص54.
[13] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج42، ص290.
[14] إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ، الغارات، ج2، ص800.
[15] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص328.
[16] السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص59.
[17] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص98.
[18] القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص150.