بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الشهيد الأقدس والأسمى سماحة الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى الولادة الميمونة للسيّدة زينب (عليها السلام)، في الخامس من جمادى الأولى، في السنة الخامسة للهجرة.
جاء في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «صيانة المرأة أنعم لحالها وأدوم لجمالها»[1].
تضاربت المعايير الاجتماعيّة عبر التاريخ والعصور في تقييم المرأة وتحديد منزلتها، واختلفت اختلافاً كبيراً، فمنهم مَن ذهب إلى عدّها مخلوقاً قاصراً تابعاً للرجل، وبعضٌ جعلها شيطاناً يُسوِّل الخطيئة ويُوحي بالشرّ، وآخرون رأَوها سيدةً للمجتمع، تحكم بأمرها وتتصرّف بمشيئتها... واليوم يغالي الغرب -ولغاياتٍ شيطانيّة- في جعلها متفلِّتةً من القيود والضوابط الفطريّة والأخلاقيّة تحت عناوين الحرّيّة والانفتاح والتطوّر؛ إذ أخرجها من سلطة الأب والزوج، ومنحها حرّيّة الطلاق، وحرّيّة الابتذال والإسفاف...
والمرأة في المجتمع الجاهليّ، كانت عرضةَ غبنٍ وحيف، فلا حقوق لها، تُمنع إرثها، وتُسلَب أموالُها، وتُعضَل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تتزوّج رجلاً ترضاه، وتُورَّث كما يُورَّث المتاع أو الدابّة، وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد، فتُدفَن حيّةً، وكان بعضهم يُلقي بها من شاهق...
نظرة الإسلام إلى المرأة
لكنّ الدين الإسلاميّ حفظ المرأة، وحماها من الظلم، وأعطاها حقوقها كافّة؛ فهي المولودة المحترمة والمدلّلة، وهي الفتاة والشابة العفيفة التي ينبغي أن تتلقّى التربية التي تصونها وتحميها، وهي الزوجة ذات الحقوق والواجبات، وهي الأم المكرَّمة... وبالخلاصة يمكن القول إنّ التشريع الإسلاميّ قد حفظ الحقوق المعنويّة والمادّيّة للمرأة، وساواها مع الرجل بما لا يتعارض مع عفّتها، كلٌّ بحسب دوره وطبيعة تكوينه وواجباته في المجتمع، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾[2].
ومما يدلّ على مكانة المرأة وعناية الإسلام بها أيضاً، ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لابنه محمّد ابن الحنفيّة: «إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة؛ فدارِها على كلّ حال، وأحسن الصحبة لها ليصفو عيشك»[3].
السيّدة زينب (عليها السلام) القدوة والأسوة
وإنّ التربية الواعية الملتزمة بالمعايير الدينيّة والأخلاقيّة، تجعل من المرأة -كما الرجل- إنساناً فعّالاً ومؤثِّراً في المجتمع، بل قد توصلها إلى منزلة القيادة والقدوة لغيرها، كما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بعض النساء المميّزات في حركة التاريخ، ومن هؤلاء النساء السيّدة زينب (عليها السلام)، التي نشأت وتربّت في بيت العصمة والطهارة؛ ولنا في مواقفها وشجاعتها وثباتها في مواجهة الظالمين قدوة وأسوة، ينبغي أن نتعلّم منها، ونهتدي بهديها، خصوصاً في مثل هذه الظروف التي نعيشها، وهي التي قال لها الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وأنتِ -بحمدِ اللهِ- عالمةٌ غيرُ معلَّمة، فهِمةٌ غيرُ مفهَّمة»[4].
في شجاعتها
رُوي أنّه لمّا أُدخِل عيال الإمام الحسين (عليه السلام) على ابن زياد (لعنه الله)، دخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكّرة، فمضت حتّى جلست ناحيةً من القصر، وحفّت بها إماؤها، فقال ابن زياد: مَن هذه التي انحازت ناحيةً، ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانيةً وثالثةً يسأل عنها، فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، فأقبل عليها ابن زيادـ، وقال لها: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم!
فأجابته (عليها السلام) بشجاعة أبيها (عليه السلام)، محتقرةً إيّاه: «الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا، وَالحمْدُ للهِ»[5].
وممّا يدلّ على قوّتها أيضاً في مواجهة الظالمين قولها الشهير ليزيد (لعنه الله): «وهل رأيكَ إلّا فَنَد، وأيّامكَ إلّا عَدَد، وجمعكَ إلّا بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين»[6].
في تسليمها
ولقد كانت (عليها السلام) راضيةً بقضاء الله، مسلّمةً لمشيئته تعالى، ويظهر ذلك واضحاً جليّاً في ردّها على ابن زياد (لعنه الله) أيضاً عندما خاطبها مستهزئاً: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيكِ وأهلِ بيتكِ؟
فأجابته قائلةً: «ما رَأَيْتُ إِلّا جَمِيلاً، هؤُلاَءِ القَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّون وَتُخَاصَمُون، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يابْنَ مَرْجَانَةَ»[7].
وكذا الأمر، في خطبتها الشهيرة في الشام، في مجلس الطاغية يزيد (لعنه الله)، كلامٌ يدلّ على هذا التسليم والرضا بمشيئة الله تعالى، إذ تقول: «الحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة، وختم لأصفيائه بالشهادة، ببلوغ الإرادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة، والرضوان والمغفرة»[8].
في ثباتها في مواجهة الظالمين
ولمّا دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائلٍ لا يدري لمن السبايا، وبين عارف يُكفكف أدمعاً ويُضمر ندماً، ولما اتَّجه موكب السبايا نحو قصر الإمارة، مُخترقاً جموع أهل الكوفة، وهم يبكون لِما حلَّ بالبيت النبويّ الكريم، قال حذلم بن ستير: ورأيت زينب بنت عليّ (عليهما السلام)، ولم أرَ خفرةً قطّ أنطق منها، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكتت الأصوات، فقالت: «الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلى أبِي رسولِ اللهِ. أمّا بعد، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْخَذْلِ، فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، فَمَا مَثَلُكُمْ إلَّا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ... أتَبْكُونَ؟! إِيْ وَاللهِ، فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ فُزْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا...»[9].
لقد تمكّنت (عليه السلام) بمواجهتها الجريئة للظالمين، من إيضاح الصورة للرأي العام وإثارتهم على الأمويّين، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلاميّ بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقرّعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ، وعرّفتهم زيف إسلامهم، وكذب دموعهم، وأنّهم من أحطّ المجرمين، فقد اقترفوا أفظع جريمة وقعت على الأرض، بقتل الإمام الذي أراد لهم الخير، وَفرَوْا بقتله كبدَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وانتهكوا حرمَته، وسبَوا عيالَه، فأيُّ جريمة أبشع من هذه الجريمة؟!
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في هذه السيّدة العظيمة: «زينب الكبرى (عليها السلام) سيّدةٌ بارزةٌ في تاريخ البشريّة، لا في تاريخ الإسلام فحسب. حقّاً هي فريدة. تلك المرأة العظيمة [مصداق قول الشاعر]: «لا تقل هي امرأة؛ فيَدُ الله معها». ونحن قلّما نجد إنساناً -رجلًا كان أو امرأة- يستطيع أن يخوض غمار الميادين الصعبة بهذه القوّة والصلابة، كما خاضته تلك السيّدة»[10].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص303.
[2] سورة الأحزاب، الآية 35.
[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص556.
[4] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص31.
[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص115.
[6] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص37.
[7] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص122.
[8] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص37.
[9] الشيخ المفيد، الأمالي، ص322.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 01/01/2020م.