التعبويُّ لا يُهزَم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
تعبئة المستضعَفين نموذج يُحتذى
إنّ التعبئة التي جُعِل يومها في السادس والعشرين من تشرين الثاني، هي تعبئة للمستضعَفين، التي يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تعريفها بيان ماهيّتها: «المستضعَفون هم أئمّة عالم البشريّة وقادته الكامنون. هذا هو معنى المستضعَفين؛ الأشخاص الذين سيرثون الأرض وكلَّ ما هو موجود عليها، هذه هي «تعبئة المستضعَفين». المستضعَف هو الوريث الكامن للعالم، خليفة الله الكامن على الأرض، والإمام والقائد الكامن لعالم البشريّة»[1].
أسّس الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) حركةً عظيمةً شاملةً لأفراد الشعب الذين يجمعهم وصف «الاستضعاف»، أسماها «تعبئة المستضعَفين»، انطلاقاً من إيمانه بما يشير إليه هذا اللفظ القرآنيّ من معانٍ ودلالاتٍ عميقة، وقد ذكر الله تعالى المستضعَفين في سياق الكلام على الخلافة الإلهيّة للإنسان، والغاية القصوى لمستقبل البشريّة، ألا وهي وراثة الأرض، إذ يقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[2].
ويُعَدّ أسبوع التعبئة إحياءً لهذه الحركة العظيمة، وإعلاناً للأهليّة التي تمتلكها التعبئة لتكون نموذجاً يُحتذى به من قِبل كلِّ مجتمع يؤمن بالركائز والأركان الإسلاميّة، فإنّ في التعبئة عنصرين مهمّين يمكن بهما أن تنتقل الفكرة إلى خارج الحدود الجغرافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة، بحيث يتلقّفها أيّ مجتمع دينيّ إسلاميّ يؤمن بالجذور الدينيّة والعقلائيّة، ومن هنا يشير الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) إلى أنّ ما تخصّصه الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران من أسبوع ٍللتعبئة: «يمثّل فرصةً سانحةً لعرض تحرّك مهيب، كان أساسه قد شُيّد في هذا البلد على يد الإمام الراحل، وسيكون هذا التحرّك -بإذن اللّه- نموذجاً تحتذي به بقيّة الشعوب في هذه المنطقة الإسلاميّة ذات الطابع الدينيّ، لا تأبهوا للأحداث العابرة التي تعرض أحياناً في الرأي العامّ للشعوب بتأثير الدعايات المعادية، وتحول دون أن تتّخذ الشعوب قدوة معيّنة لها، وإلّا فإنّ الحركة الباقية هي ما ذكرها تعالى بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾[3]»[4].
طبيعة الحركة التعبويّة
وإنّ الكلام على خواصّ الحركة التعبويّة، يُراد به ذكر الملامح العامّة المميّزة لمجموعة التعبئة من حيث كونها كتلة بشريّة شاملة تنتظم في إطار شعبيّ عام، وإنّ أهمَّ ما يميّز هذه الحركة عنصران أساسيّان:
1. الحضور الشعبيّ
بالنظر إلى حركة التعبئة، يمكننا أن نلحظ أنّ القضيّة الأساس لها تتميّز بأنّها تمثّل الحضور الشعبيّ في ميدان العمل والحراك الاجتماعيّ السياسيّ، لحفظ كيان الجمهوريّة الإسلاميّة التي تمثّل التجسّد العمليّ لقيَم الإسلام؛ ولذلك عدّ الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حركة التعبئة حركةً لا نظير لها في تاريخ الثورات، من جهة أنّ حضور الشعب في الميدان في خصوص الثورة الإسلاميّة ليس له نظير في تاريخ الثورات السابقة، إذ يقول (دام ظلّه): «إنّ هذه الظاهرة لا نظير لها، ولكن قد يسأل سائل: ألم تكن للشعوب والثورات الأخرى مشاركة شعبيّة، بحيث تقولون إنّ مشاركة التعبئة وحضورها هو ظاهرة لا نظير لها؟! كيف لا؟ نعم، في الثورات الأخرى والأحداث الكبرى التي وقعت في دُول العالم، كان لجماهير الشعب حضوره، ولكن مع فارق عميق جدّاً ومؤثّر لجهة الفعاليّة. لو تأمّلتم في التّاريخ، لرأيتم أنّه في القرنين أو الثلاثة الأخيرة، كان في العالم ثورتان معروفتان بمستوى ثورتنا؛ إحداهما الثورة الفرنسيّة الكبرى، والأخرى الثورة الشيوعيّة في روسيا. وفي كلتا الثورتين، اللتين كانتا كبيرتين وهائلتين، كان هناك حضور للناس، إلّا أنّ مشاركتهم فيهما تختلف عن مشاركة التعبئة في ثورتنا»[5].
2. المواكبة والجهوزيّة
والخاصّيّة الثانية التي تميّز حركة التعبئة، هي المواكبة الدائمة للأحداث، والجهوزيّة للفاعليّة في شتّى الميادين، إذ إنّنا نشهد خمود الروح الثوريّة في بقيّة الثورات، وانهماك الشعب بالقضايا الجزئيّة الفرديّة، بينما نجد في المقابل أنّ انتظام حركة التعبئة تعبّر عن استمرار الروح الثوريّة وعدم خمودها، على الرغم من مرور عقود من الزمن على انتصار الثورة، ومن هنا نجد أنّ الخاصّيّة الأخرى هي الجهوزيّة والمواكبة...
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «في الثورات الأخرى رجع الناس إلى بيوتهم، لكن مرّ ثلاث وثلاثون سنة على ثورتنا، والتعبئة ما تزال في الساحة وفي الميدان وبكامل الجهوزيّة. أفراد ذاك الجيل الّذي انتسب إلى التعبئة في ذلك اليوم، قد أصبحوا اليوم من متوسّطي الأعمار والمسنّين، وأضحت لحاهم بيضاء، ولهم أحفادٌ وأصهرة وزوجات أبناء، لكنّهم تعبويّون. لقد أضحَوا شيوخاً، لكن هل أصبح وجه التعبئة شيخاً؟ كلّا، أبداً. إنّ وجه التعبئة هو وجهٌ شبابيّ، فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني أنّ الأجيال الحديثة والمتعاقبة لم تضيّع هذا الحضور الشعبيّ، ولم تَنْسَه... إنّ هذه المجموعة قد حلّت الكثير من العُقد، وكان لها حضور ومشاركة في الكثير من الساحات، وكان لحضورها تأثيرٌ أساسيّ ومصيريّ؛ لذلك إنّنا بحاجة لمثل هذا الحضور في المستقبل»[6].
من القيَم التعبويّة
وإنّ هذه الحركة التعبويّة تستند في عملها وتحرّكها إلى القيَم الإسلاميّة المُستقاة من شخصيّات العظماء في التاريخ الإسلاميّ، والذي هو أحد أهمّ المنابع للشخصيّة التعبويّة، ومن أهمّ هذه القيَم:
1. الصدق في التعامل مع العهد الإلهيّ
وهو قيمة ضروريّة لازمة لكلّ من يريد تحمّل المسؤوليّة والسير قدماً في تحقيق الأهداف، ويمكن أن نجدها متجلّية في شخصيّات الثورة الحسينيّة، والتي تمثّل أرقى حالات الروح التعبويّة وتحمّل المسؤوليّة، حيث مثّلت حادثة عاشوراء انتفاضةً عارمةً على انحراف المجتمع الإسلاميّ عن مبادئه، وهذه الانتفاضة في الحقيقة هي عمق الروح التعبويّة الرافضة للانحراف عن القيَم، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «أحد العوامل المنتجة لهذه الروحيّة، وهذا الصبر لدى زينب الكبرى (سلام الله علیها) وسائر الأولياء الإلهيّين الذين تحرّكوا بهذه الطريقة، هو الصدق في التعامل مع العهد الإلهيّ، تقديم القلب بصدقٍ في سبيل الله، هذا مهمّ جدّاً. لقد عُدَّ هذا الصدق في القرآن الكريم لازماً للأنبياء الإلهيّين العظام ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾[7] [...] أي إنّ نبيّنا والأنبياء الإلهيّين العظام ينبغي أن يقدّموا في الساحة الإلهيّة مستوى صدقهم الذي قاموا به في مقام إعمال هذا الميثاق الإلهيّ، هذا بالنسبة للأنبياء، كذلك بالنسبة للناس العاديّين والمؤمنين: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ﴾[8]»[9].
2. عدم الانهزام
والقيمة الأخرى التي يُثبِتها الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ويبيّنها عبر الاستعانة بالنماذج القرآنيّة لبثّ الروح التعبويّة، هي قضيّة عدم الانهزام، والتي ترجع في الحقيقة إلى الثبات على المبادئ، وهي أهمّ صفة من صفات التعبويّ، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لدينا معاهدة مع الله، في هذه الآية الشريفة - ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾[10]- هذا العهد الذي يذكره بأنّ المؤمنين قد عاهدوه مع الله، وبعضهم قد وفى به بأحسن الوفاء وثبتت قدماه في طريقه، هو نفسه ذلك العهد الذي ذُكر قبل عدّة آيات من تلك السورة المباركة، إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾[11]، ينبغي علينا جميعاً أن ننتبه إلى هذه النقاط. كانوا قد عاهدوا الله بأن لا يفرّوا من العدوّ، وأن لا يولّوه الأدبار. التنازل عن المواقف والتراجع الانهزاميّ في مواجهة العدوّ، من جملة الأمور التي يؤكّد القرآن عدم القيام بها في الحرب العسكريّة وفي الحرب السياسيّة وفي الحرب الاقتصاديّة، وفي كلّ مكان فيه اختبار للقوّة، يجب الوقوف مقابل العدوّ، يجب أن ينتصر عزمكم على عزم العدوّ، يجب أن تغلب إرادتكم إرادة العدوّ، وهذا يحصل وممكن. في ميدان أيّ نوعٍ من الجهاد والمواجهة، الانهزام وإدارة الظهر للعدوّ عمل ممنوع في نظر الإسلام والقرآن»[12].
وإنّ أحوج ما نكون إليه في صراعنا اليوم مع العدوّ الصهيونيّ، في حربنا العسكريّة، وفي حربنا السياسيّة، وفي صمودنا، هو الثبات على المبادئ وعدم الانهزام، فـ«الشجاعة صبر ساعة»[13] كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كم من صبر ساعة قد أورثت فرحاً طويلاً»[14].
[1] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ27/11/2019م.
[2] سورة القصص، الآية 5.
[3] سورة إبراهيم، الآية 24.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ20/11/1996م.
[5] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 15/10/2011م.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 15/10/2011م.
[7] سورة الأحزاب، الآيتان 7 - 8.
[8] سورة الأحزاب، الآيتان 23 - 24.
[9] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 20/11/2013م.
[10] سورة الأحزاب، الآية 23.
[11] سورة الأحزاب، الآية 15.
[12] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 20/11/2013م.
[13] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص11.
[14] الشيخ المفيد، الأمالي، ص42.